أوروبا العجوز على طريق «الشرق الأوسط» العودة إلى الماضي

بلال رفعت شرارة

أنا لا أعرف الكثير عن تاريخ أوروبا الاجتماعي والسياسي، وجلّ ما أعرفه أنا وأبناء جيلي هو المغامرات العسكرية للملوك والأمراء وحمَلة الألقاب دوق، كونت إلخ… وبعض رجال الدين الذين انخرطوا في السياسة أنموذج الكاردينال ريشيليو ومحاكم التفتيش في اسبانيا التي كانت تقود المملكة، وتدخلات الفاتيكان وفتاويه المتصلة بتركيب السلطة، أو فتاويه المتصلة بالغزوات الصليبية للشرق وأدوار الجماعات والأفراد في حروب استتباع محلية وانهيار حدود ونفوذ الإمارات والدوقيات والقلاع في القرون الوسطى، وصولاً إلى بدء ذوبانها في دول مركزية أواخر القرن الثامن عشر، ووصولاً إلى مطالع الحرب الكونية الأولى. وهذه الدول والكيانات شكّلت في ما بعد الاتحاد الأوروبي.

النظرة الأميركية الحقيقية للقارة الأوروبية أنها قارة عجوز، وهذا يعني أنّ الاستراتيجية الأميركية نحو أوروبا لن تكتفي بتجديد شباب النظام السياسي فيها حسب أنموذج ماكرون وإنما التفرّج وتحفيز المشكلات القائمة بين الأعراق والمذاهب الدينية استعادة مذبحة برتلماوس والمجموعات اللغوية والنظر لمشروع الاتحاد الأوروبي بمجمله بسخرية واعتباره مُجمّعاً للمشكلات القِطرية الأوروبية البشرية والاقتصادية التي لم تذُبْ في إطار الدولة المحلية لعلها تذوب في إطار الوحدة.

الآن الرئيس الفرنسي يحذّر من انقسامات خطيرة في أوروبا في وقت نبّه فيه رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر إلى أنّ الاتحاد الأوروبي لا يحتاج الى المزيد من التصدّعات والانقسامات ، فيما أكد رئيس المجلس الأوروبي دونالد ناسك في ردّ فعله على إعلان انفصال كاتالونيا أنّ مدريد ستبقى المحاور الوحيد داعياً الحكومة الإسبانية إلى إعطاء الأولوية لقوة الحجة لا لحجة القوة ولكن…؟ لا يبدو أنّ مدريد ستسلّم بهذا الأمر، وهي أعلنت على لسان جميع مسؤوليها أنها ستعيد الشرعية الى هذا الإقليم وستضع كاتالونيا تحت وصايتها من دون الإجابة على سؤال: ماذا ستفعل مدريد بالتسعين في المئة من الذين شاركوا بالاستفتاء وصوّتوا لصالح الاستقلال؟

– -2

واقع الأمر أنّ النظرة إلى تفكك يوغوسلافيا على النحو الدموي الذي جرى في نهايات الألفية الثانية، ونتج عنه نشوء دول عدة، هو الأمر الذي سيشكل الأنموذج المقبل لأوروبا مع الإشارة إلى انّ تفتيت يوغوسلافيا لم ينته عند حدود التشققات السابقة، حيث يدور الهمس المرتفع عن أنّ اقليم فوفودين في صربيا قد تكون لديه طموحات انفصالية فيما يطالب الشق الصربي في البوسنة بتنظيم استفتاء.

واقع الأمر أنّ استفتاء كاتالونيا هو الثاني إذ جرى استفتاء أول غير شرعي في العام 2014. وهو الأمر الذي قد يحفّز حركات انفصالية أخرى في أوروبا لتقليد هذا الأنموذج، إذن انّ إقليم الباسك قد يحذو حذو كاتالونيا ولا يكتفي بالحكم الذاتي والصلاحيات الموسّعة الممنوحة له منذ العام 1970.

وفي أوروبا وتحديداً في اسكتلندة، ورغم انّ الانفصاليين خسروا استفتاء 2014 ولكنهم يميلون الى إجراء استفتاء ثانٍ للانفصال عن بريطانيا.

يُذكر في هذا المجال انه أعلن أواخر حزيران يونيو الفائت عن تأجيل مثل هذا الاستفتاء الى خريف 2018 أيّ بعد انتهاء المفاوضات المقرّرة حول البريكسيت وينتظر من الأدلة السياسية أن لا يرى مثل هذا الاستفتاء النور قبل خريف 2019، أيّ بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وهذا الخروج يُنظر اليه على أنه خطوة انفصالية أو تفكيكية للاتحاد الأوروبي نفسه.

وفي أوروبا أيضاً لا بدّ من الإشارة الى انّ إقليم الفلاندر الناطق باللغة الهولندية في بلجيكا يضمّ حركة انفصالية قويّة لديها خصوصياتها.

وفي إيطاليا وفي هذه اللحظة السياسية يسعى حزب رابطة الشمال الشعبوي لاستقلال منطقة الباداني التي تتألف من لومبارديا التي تضمّ مدينة ميلانو وتشكل 20 في المئة من اقتصاد إيطاليا وفينيتو، واللتين تشكوان من دفع ضرائب للدولة المركزية أكثر مما يتلقيان منها من أموال كإشارة الى انّ الدولة تحلب هذه المنطقة . ومن المقرّر تنظيم استفتاء هذا الخريف في هاتين المنطقتين مع الإشارة الى انّ الحركة الانفصالية في سردينيا أضحت حركة ملموسة، رغم أنها لا تزال بعيدة عن تنظيم استفتاء فضلاً عن أنّ سردينيا تتمتع بالكثير من الاستقلالية. ويًشار على الصعيد نفسه إلى أنّ جزيرة كورسيكا قد تتجه الى تنظيم استفتاء وهي تتطلّع الى تجربة كاتالونيا.

– -3

وفي ما يتصل بأوروبا يُشار إلى أنّ جزر فارو التي تقع في شمال المحيط الأطلسي وتتبع الدنمارك منذ العام 1948 وتتمتع بحكم ذاتي وتسيّر أعمالها باستثناء المسائل المتعلقة بالدفاع طفت على السطح فيها مع اكتشاف النفط والغاز فيها منذ عقدين نوازع استقلالية.

برأيي المتواضع، فإنّ أحداث الشرق الأوسط والانفجارات العرقية والدينية والسياسية والجهوية والقبلية والعشائرية التي شهدها ولا يزال وصولاً الى مشاريع تقسيم المقسّم والفيدراليات والكونفيدراليات الجارية… كلّ ذلك يشكل صورة المشهد الأوروبي المقبل، وكلّ من روسيا التي دفعت الكثير من الضحايا والموارد في الحرب الكونية الثانية والتي قادتها ألمانيا النازية، وكانت تستهدف تقويض مركز موسكو وأدواره والولايات المتحدة الأميركية التي انخرطت في هذه الحرب سوف لا تأبهان للمصير المقبل لأوروبا بل ستنتظران استعادة نفوذيهما والانتداب على شرق وغرب أوروبا.

أوروبا التي هي الجوار الجغرافي المتوسطي كانت تستطيع أن تلعب أدواراً في المشرق العربي وفي تونس وليبيا لخفض سقف العنف والتوترات، وهي كانت تستطيع منع محاولة تسليم مصر للإخوان المسلمين ولو لمدة ضئيلة، ومنع الأحلام التركية باستعادة نفوذ السلطنة واستبدال الانكشارية بالأسماء الوهمية للإخوان من القاعدة الى الدواعش وما بينهما.

أوروبا اليوم تعيش تحت وطأة التهديدات الناجمة عن احتمالات عمليات دموية تنفذها الذئاب المنفردة العائدة من حروبها الخاسرة في الشرق أو الكامنة كخلايا نائمة، وكذلك تحت وطأة دفع أثمان مشكلاتها التي يبدو أنها لم تحلّ كلياً ولا تزال جمراً كامناً تحت الرماد.

أعتقد، بل أجزم أنّ أوروبا، للأسف، ستسلك الطريق الدامي الذي سلكه الشرق الأوسط ولا يزال الله يسترنا .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى