درسٌ عونيّ للإقليم بفنون مجابهة المطاوعة

د. وفيق إبراهيم

للمرّة الأولى ينجح رئيس عربي معاصر بكسر قرار سعودي ببسالة نادرة، لكنّها محسوبة. لم يعبأ بالاختباء الأميركي خلف قرار وليّ العهد محمد بن سلمان، الذي قضى باحتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري وإرغامه على الاستقالة مأسوراً داخل منزله العائلي في العاصمة الرياض، ومنذ أربعة عشر يوماً، بل هاجم بخطة وفق فنون تجمع بين العلوم السياسية والعسكرية التي يُجيدها.

لقد بدا مشهد استدراج الحريري إلى السعودية وتلقينه ما قاله مهيناً لكلّ لبنان بتنوّعاته كافة، واستصغاراً لمؤيّديه والمختلفين معه سياسياً على السواء. وكانت ردّة الفعل واحدة، كلّنا مع عودة الحريري. ومن محاسن الصدف أنّ رئيساً مسيحياً قوياً موجود في رئاسة الدولة، فأبت عليه كرامته أن يقبل بمثل هذه المهانة لما تمثّله له من أهميات أربع فالحريري رئيس وزراء لبنان، وصديقه الشخصي، وممثّل لمكوّن مذهبي لبناني أساسي، وله دور إقليمي، أيّ يجمع بين الشخصي والسياسي والوطني والإقليمي.

وإذا كانت المكوّنات الأخرى مُحرَجة في تبنّي مواقف أكثر حدّة في وجه السعودية، خشية استثمارها في حروب داخلية مذهبية، كما كان يأمل السعوديون، فإنّ الرئيس عون بصفته رئيساً للبلاد، ورجلاً يتمتع بشجاعة القادة التاريخيين، اتّخذ عن الجميع قراراً بالتصدّي. وإلا فما هو الفارق بينه وبين مَن سبقه من رؤساء، كانوا يقيمون في عباءات الأمراء، وربما في أمكنة أخرى، وينظّمون مديحاً دائماً في كلّ إيماءة من حركات آل سعود الشعوائية!

وللإشارة، فإنّ محمد بن سلمان المصاب بهزائم على الجبهات الإقليمية والعربية كلّها، أراد وببساطة كاملة أن يفجّر دولة عربية جديدة بعد سورية والعراق واليمن، فاختار لبنان لاعتقاده بسهولة الهدف الذي يحتوي على ألغام مذهبية متناحرة من السهل تفجيرها، كما كان يعتقد. ولأنّه يمتلك واحدة منها، مع تحالفاتها في شرائح سياسية مسيحية ودرزية، فقد تخيّل له أنّ استدراج الحريري إلى الرياض ودفعه إلى الاستقالة، عملية ميكانيكية تنتج توتّراً أمنياً يستتبع تدهوراً سياسياً واقتصادياً، مؤدّياً إلى انهيار كامل في العلاقة بين اللبنانيين وحزب الله. الأمر الذي يُفضي إلى عرقلة دور الحزب في الإقليم، ومنعه من الانخراط العسكري في سورية والعراق.

هناك خطوة أخرى كامنة خلف حركة محمد بن سلمان اللبنانية، تتعلّق بإعادة تحجيم الرئيس عون ليتماثل مع قياس من سبقه، وخصوصاً ميشال سليمان، الذي لا يزال حتى اليوم يشيد بـ «حكمة» آل سعود، وهؤلاء يعتقدون أنّهم ممسكون بلبنان منذ 1990، وحتى 2016، تاريخ وصول عون إلى الرئاسة، وهي مرحلة دشّنها المرحوم رفيق الحريري الذي تمكّن بحنكته من الإمساك بمفاصل القرار السياسي والاقتصادي اللبناني، حتى اغتياله في 2005.

لذلك، فإنّ الحركة الإقليمية لحزب الله المستندة إلى داخل لبناني مؤّيد، وازداد مع ترئيس عون الذي أعلن تأييده لسلاح حزب الله في وجه الإرهاب و «إسرائيل»، نافياً علاقته به في حروب الإقليم.

لذلك ربط ابن سلمان بين حزب الله وعون، مفجّراً غضبه على سعد الحريري الذي عقد صفقة مع العونيين على أساس اقتسام السلطة ومغانمها بين الطرفين، وكان مرجّحاً أن تسهم هذه المحاصصة في سحب عون من حلفه السياسي مع الحزب إلى تفاهم أعمق مع التيارات الموالية للسعودية، على أساس معاداة حزب الله وتحالفاته. لكنّ رئيس البلاد ظلّ وفياً لدور الحزب الذي دافع عن البلاد ثلاث مرات الأولى بين 1983 – 2000 وأدّت إلى انسحاب «الإسرائيليين» من لبنان بعد جهاد ضروس، والثانية في 2006 عندما منع مقاتلو الحزب الجيش «الإسرائيلي» من العودة إلى احتلال لبنان، أمّا الثالثة فبدأت في 2013، في الجرود الشرقية لسهل البقاع، وبعض البؤر في الداخل اللبناني، وانتهت بانتصار على الإرهاب في جرود عرسال إلى جانب الجيش اللبناني، وهناك أسباب رابعة غير مرئية تتعلّق بتمكّن أمن الحزب من إجهاض معظم العمليات الإرهابية على مستوى لبنان بالتعاون مع الأجهزة الأمنية المختلفة والمتنوّعة، من دون نسيان قدرته على الحدّ من حركة «إسرائيل» في الداخل.

لذلك، فهم الرئيس عون أنّ الحزب عامل استقرار داخلي، بانياً على هذا المعطى ضرورة استمرار الحزب في حركته الأمنية والعسكرية في الداخل اللبناني بانتظار توصّل الجيش اللبناني إلى بناء وحدات عسكرية وأمنيّة كافية.

لم يرق هذا الأمر لابن سلمان، وهو المعتاد على التعاطي مع سياسيين لبنانيين يشبهون المطاوعة، ولم يفهم أنّ عون ليس من هؤلاء. فهو قوّة تاريخية اكتسبت أهميّتها من قيادة الجيش اللبناني وطنياً، وليس سياسياً كما فعل أسلافه. وقاوم حسبما كان يؤمن به من مفاهيم قد لا نقبلها، لكنّه حارب من أجلها بشجاعة خارجاً إلى منفىً باريسي لم يقطع بينه وبين قاعدته الشعبية التي ازدادت لقوّة منطقه وصراحته، حتى أنّه أصبح القوة الأساسية عند المسيحيين من دون منافسين جديّين، يطلقون جعجعات وتحليلات تكشف مدى انتسابهم إلى حزب المطاوعة.

لم يكتفِ عون بعد عودته بقيادة المسيحيين، منتقلاً بتفاهم مع حزب الله إلى الدور الوطني الريادي والحكيم، ومؤسّساً مع حزب المستقبل انتشاراً وطنياً غير مسبوق، ومستوعباً بعض حركات النشاز المسيحية بأبويّة صريحة. هذه المواصفات لرئيس استثنائي سمحت له بالتصدّي لخطة التفجير السعودية… حاول لفلفة الموضوع بالدبلوماسية، لكنّه إزاء التعنّت السعودي رفع صوته، ولأنّهم ظلّوا معاندين خرج معلناً أنّ رئيس حكومته وعائلته محتجزون في السعودية، ومقرّراً الذهاب إلى مجلس الأمن في حرب سياسية ضدّ الرياض لم يفعلها أحد من قبله منذ عقدين من الزمن، فالإقليم بأسره أصبح صاغراً بسبب قوة البترودولار المرتبط بدهاء الأميركيين. لذلك لم يتحرّك أحد بسبب الحرب الأميركية على قطر، وصمتت تركيا على الهجوم السعودي الذي يستهدفها، ورضخت مصر بالمال والتهديد للشروط السعودية من دون نسيان الأردن ومعظم الدول العربية والإسلامية التي تحلّقت حول الرياض كإحاطة السوار بالمعصم.

لكنّ سورية والعراق حاربتا التعسّف السعودي وانتصرتا بمئات آلاف الشهداء. وها هو الرئيس عون يوجّه رسالة شجاعة إلى الإقليم، مفادها أنّ عصر المطاوعة لا يدوم، وأنّ الموقف الوطني هو الدائم والمستقرّ.

وهكذا، يعود الحريري قريباً على أساس موقف عوني شجاع أعاد تمتين الوحدة الوطنية بين اللبنانيين، وتزويد دول الإقليم بشحنات بسالة من دولة تمتلك رئيساً من معادن الرجال الوطنيين الأقوياء، لا يساومون على سلامة أوطانهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى