النأي أو النعي بالنفس؟!

خليل إسماعيل رمَّال

يبدو أنَّ «علقة» رئيس حزب «القوات» سمير جعجع «سخنة» مع تيَّار «المستقبل»، خصوصاً الرئيس سعد الحريري، ولا يوجد في الأفق ما يوحي بالحلحلة بين الفريقين بعد أن تبادل أنصارهما الاتهامات وسيل الإهانات على السوشال ميديا وانقطاع جعجع عن زيارة بيت الوسط. ومهما حاول الأخير تبرير أعذار له على تصرّفه وتملّصه من المسؤولية منذ استدعائه إلى مملكة بني سعود وحتَّى عودة الحريري من الحجز الذي فرضه بن سلمان عليه، إلا أنّ الكتابة واضحة على الجدران كما يقول الأميركيون، وهي أنَّ الجرّة انكسرت بين الحليفين بعد انكشاف أمر جعجع وريفي وغيرهما من الصقور في الانضمام لحملة السبهان الفاشلة في لبنان للإطاحة بمكانة سعد الحريري وإحداث فتنة كادت تؤدّي إلى حرب أهلية.

والمشكلة الأساسية عند جعجع أنَّ الحرب الأهلية وضعت أوزارها، لكنَّها ما زالت عنده مستمرة، ولم تغادر عقله الميليشياوي، ولذلك يتصرّف على هذا الأساس ويُِصاب بإخفاق تلو إخفاق منذ «حملة فِلّ» ضدّ الرئيس المقاوِم العماد أميل لحُّود إلى تنبّؤاته الباطلة إلى تحالفاته الهشة التي لم تثبت أمام رياح التغيير والإصلاح. فلطالما أوهَمَ جعجع الجميع، ممن يهمّهم أمر ضرب المقاومة في لبنان وخارجه وخاصة السعودية، أنَّه قادر على تأمين عشرة آلاف مقاتل قواتي لمحاربة المقاومة. وبغضّ النظر عن هذه «القدرة» المشكوك فيها أصلاً، إلا أنَّ هذا دليل على عدم صدق جعجع بطي صفحة الماضي والانخراط في السلم الأهلي. ثم أنَّ المرء يتساءل من أين سيأتي جعجع بالسلاح والمال ومَن سيدعمه كالسابق أيام الحلف مع «إسرائيل»؟

بكلّ الأحوال مغامرة جعجع ضدّ الحريري قد تكلّفه ثمن التحالف مع «المستقبل»، ومحاربته انتخابياً، ولو أنَّه بعد تحمّسه الشديد للاستقالة وعرقلة العهد العوني عاد وتراجع عن قرار استقالة وزرائه من الحكومة…!

حتَّى لو بقيت معه السعودية فلن يتمكّن جعجع من الخروج من الحفرة التي وضع نفسه فيها. فالذي حصل عبر محاولة إيجاد السعودية تغطية مارونية عبر جعجع وسامي الجميِّل وسنية عبر أشرف ريفي وجمال الجراح وخالد الضاهر، أمر غير طبيعي، حيث أنَّ جعجع صاحب تاريخ أسود ومعروف لدى الطائفة السنّيّة. وهو مدان بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وبالتالي لن يكون من ضمن العناصر الحاضنة للسُّنة كما أراد بن سلمان. أصلاً تحالف سعد الحريري معه كان خطأ منذ البداية، فوالده الراحل رفيق الحريري ساهم بوضعه في السجن و«قرنة شهوان» المؤلفة من أصدقاء اليوم والمتزلّفين للحريرية، كانت من ألدّ أعداء الحريري الأب.

إذن، للأسف مشكلة «القوات» هي رئيسها وحساباته الخاطئة وعلى اللبنانيين أن يسألوا أنفسهم. هل هي صدفة أنَّ الحرب الأهلية لم تكن لتتوقّف لولا بقيت شوكة «القوات اللبنانية» قوية ومتحكِّمة بالمنطقة الشرقية؟ وهل صدفة أنَّ صدامها العسكري مع الجيش يوم كان العماد عون رئيساً موقتاً للحكومة، والذي أضعفها عسكرياً، هو الذي سهّل الوصول إلى حلّ في الطائف أنهى حرب لبنان ورضخت له «القوات»؟

لهذا قد تحمل الأعياد هدايا بالجملة للبنانيين نتيجة الوحدة الوطنية التي أدَّت للإفراج عن الحريري الذي بات اليوم على يقين كما أعلنت عمّته بهيَّة من دون وجل، وهي الأقرب إلى أذنه مع ولديها، أنَّه لولا تصرُّف السيِّد حسن نصرالله الأخلاقي والمعنوي، لما تمّ الإفراج عن ابن أخيها. لقد كان من السهل على المقاومة وفريق 8 آذار أن تسارع للانتقام والتشفّي والمساهمة في شطبه من المعادلة، ولو جاءت من عدو سياسي كبني سعود، كما فعل حتَّى أقرب المقرَّبين منه شقيقه وغيرهم، لكن المقاومة مع الرئيسين تعاملت مع الموضوع بنبل وتسامح وإنسانية ولم ترضَ أن تُهان كرامة رئيس وزراء لبنان. وهذا بالضبط ما لم ترد بقايا 14 آذار السبهانية أن تتفهّمه عندما قامت المقاومة بترحيل التكفيريِّين من الجرود والقلمون نتيجة اتفاقيات التزمت بها المقاومة وحقّقت من خلالها تحرير أرض وأسرى لدرجة أنّ أشرّ أعدائها كانوا يطلبون ضمانتها في حفظ حياتهم. فالمقاومة هي ضمانة الوطن وعنصر قوّته، ولو كانت في بلدٍ غير لبنان لكان النَّاس «حطّوها عالراحات»!

على الحريري البناء على هذه الأخلاقية السياسية والمناعة الوطنية الداخلية التي يجب أن تكون هي الحاضنة للسنّة، ولكلّ الطوائف. ومن حسن حظ لبنان اليوم وجود العماد عون على رأس السلطة، وقد خبر الحريري بنفسه مدى مصداقية الجنرال وحفظه للعهود معه ومع غيره، ولذلك ها هو رغم كلّ الحقد والسمّ السعودي يصرِّح الرئيس عون لصحيفة إيطالية أنَّ سلاح المقاومة هو للدفاع وليس إرهابياً. وقد أحسن الحريري بالتصريح الذي يُحاكي تصريح عون حول دور حزب المقاومة ووجوده داخل الحكومة وأنه لا يستخدم سلاحه في الداخل.

تبقى عقدة النأي بالنفس وهي تلعّي النفس فعلاً بسبب الفهم المختلف لها لدى كلّ طرف، إلا أنها عبارة ممجوجة غير واقعية وسخيفة، وكان القصد منها فقط سورية لا غير، للتملّص من العلاقات الأخوية التي تجمع الدولتين التوأمين. والمشكلة في استخدام هذا النعي بالنفس، هي أنَّ كلّ المقصود هو حفظ ماء السعودية بعد الفشل المدوِّي الذي مُنيت به إثر احتجاز حرية الحريري. فلماذا؟ وكيف يُطلَب من مقاومة انتصرت على أشرس عدوّ وحققت معجزة التحرير والردع الاستراتيجي واستعادت الثقة والكرامة وقوّة لبنان بمقاومته وشعبه وجيشه، أن تتنازل وتنأى بنفسها، وهي في عمق محور المقاومة في سورية وحمت لبنان من خطر التكفير الطاعوني الذي ما زال يفتك بدول كبرى مثل مصر مثلاً؟! وهل نأت السعودية بنفسها عن سورية والعراق والبحرين واليمن؟! أم أنَّ النأي بالنفس يتطلّب السكوت عن جرائم بني سعود في هذه البلدان، خصوصاً عن مجازر اليمن؟ وهل النأي عن أزمات المنطقة ينطبق على «إسرائيل» أيضاً كما يتمّ الخلط اليوم بينه وبين الحياد؟ وهل النأي هو توطئة للتغاضي وتسهيل إعلان الحلف السعودي «الإسرائيلي»؟! هذا ليس إلا نعياً للنفس، ويجب أنَّ يرفضه كلّ لبنان، مقابل مفهوم التوافق والتراضي والتحاور حول أزمات المنطقة حالة بحالة مع مراعاة خصوصية الظروف المحيطة بها كلها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى