القدس سوف لن تتحوّل إلى أورشليم

أسامة العرب

مئة عام مرّت على وعد بلفور، فيما كانت النتيجة احتلال 78 بالمئة من أراضي فلسطين التاريخية، وها هو وعد ترامب الجديد يمهّد لطرد الفلسطينيين من الجزء المتبقي منها، حيث أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدس موحّدة عاصمة لـ«إسرائيل»، وخط اسمه على القرار، كما خطّ بلفور اسمه على الرسالة، إيذاناً بمرحلة جديدة في الصراع مع العدو.

سلسلة من القرارات الأممية صدرت من أجل حماية القدس والمقدّسات أبرزها القرارات 181 1947، و252/1968، و267/1969، و 446/1979، و465 1980، و1322/2000، و 2334 2016، إلا أنّ النتيجة على أرض الواقع بقيت صفراً، أيّ أنّ القرارات الأممية هي بحقيقتها مضيعة للوقت، لا أكثر ولا أقلّ.أن

يخشى العدو من انتفاضة قدس جديدة، تعيد الاهتمام والاعتبار للقضية الفلسطينية، بعد سنوات من تهميش قوى الرجعية والتراجع لها. ذلك أنّ الانتفاضة تعني تذكير العالم أجمع بأنّ هناك صراعاً مركزياً لا يزال قائماً، كما أنه يُنهي حالة الهدوء الموهومة التي قد يفهم منها رضوخ الشعب لإرادة المطبّعين وتسليمهم بالأمر الواقع، ويدفع المجتمع للإيمان أكثر فأكثر بأنّ طريق الحرية والكرامة يمرّ بالمقاومة أما النتيجة الثانية للانتفاضة فهي إعادة الحراك والفعاليات المؤيدة لثقافة المقاومة ودور محور المقاومة ونضاله المشروع ضدّ العدو، خصوصاً في العواصم الغربية، حيث ستعمّ التظاهرات الداعمة للانتفاضة والمندّدة بالانتهاكات التي ترتكبها القوى العظمى بحق الشرعية الدولية أما النتيجة الثالثة فهي تعرية دولة الاحتلال أمام الرأي العام الدولي من خلال تسليط الضوء على انتهاكاتها وجرائمها، والدفع باتجاه إظهار وجهها الحقيقي بأنها دولة بربرية، وبأنّ المحتلين متطرّفون ومتخلّفون.

أما النتيجة الأهمّ فهي أنّ هنالك خطراً حقيقياً يتهدّد المقدسات، التي لا يمكن تركها بيد المتطرفين والإرهابيين الصهاينة، فهل من أحد ينسى أنّ «إسرائيل» بعدما احتلت القدس والأقصى عام 1967 كان الحاخام الأكبر للجيش «الإسرائيلي» الجنرال سولومون غورين أوّل الداخلين إلى المسجد الأقصى، وكان معه الجنرال عوزي نركيس قائد الجبهة الشرقية، فقام الحاخام برفع العلم «الإسرائيلي» على قبة الصخرة الذهبية، وقال لقائد الجبهة الشرقية: «هذه هي اللحظة المؤاتية لتفجير قبة الصخرة. افعلها وسيخلد اسمك في سجلات التاريخ»؟ وهل من أحد ينسى يوم 21 آب 1969، عندما اقتحمت الاستخبارات «الإسرائيلية» المسجد الأقصى من باب الغوانمة، وأشعلت النار في المصلّى القبلي بالمسجد الأقصى، وسكبوا عليه مواد حارقة شديدة الالتهاب من الداخل والخارج، بهدف هدمه وإقامة الهيكل المزعوم مكانه؟ وهل من أحد ينسى اقتحام المجرم أرييل شارون للمسجد الأقصى ومعه قوات كبيرة من جيش الاحتلال وارتكابه مذبحة جماعية بحق المصلين، وتجوّله آنذاك في ساحات الأقصى، قائلاً إنّ الحرم القدسي «سيبقى منطقة إسرائيلية»، مما أثار انتفاضة الأقصى.

إنّ الفلسطينيين يتعرّضون اليوم لحصار وتجويع وقطع للكهرباء واعتقالات وسجون وقتل على الشبهة وتقطيع أوصال الضفة الغربية والاستيطان وتهويد للقدس وهدم للمنازل وجرف للأراضي، والهدف الحقيقي من هذه الممارسات أن ييأس الفلسطينيون ويقبلوا بدولة في سيناء أو كونفدرالية مع الأردن.

والجميع يتذكّر بأنّ جامعة الدول العربية عقدت اجتماعاً طارئاً في 21 و22 تشرين الأول عام 2000 رداً على قرار أميركا بنقل سفارتها للقدس آنذاك، كما هدّدت بقطع جميع العلاقات مع الدول التي تنقل سفاراتها الى القدس وتعترف بها عاصمة لـ«إسرائيل»، وهذا ما جعل العديد من الدول الأجنبية يذعنون للرغبة العربية حينها، وكانت آخر دولتين نقلتا سفارتيهما من القدس المحتلة إلى تل أبيب هما السلفادور وكوستاريكا عام 2006. ولكنّنا نأسف اليوم أنّ الجامعة العربية أصبحت مفرّقة لشعوب المنطقة، متغافلة عن قضاياهم، متمسّكة بالارتهان للخارج وغير آبهة أيضاً بتحرير الأراضي العربية واللبنانية المحتلة، ولا بالدفاع عن مصير ملايين من فلسطينيّي الشتات. لم تسمع الجامعة أنّ هناك توجهاً دولياً جديداً لشطب القدس عن الخريطة وإقامة أورشليم مكانها، ولا بأنّ العام المنصرم شهد 15000 انتهاك للمسجد الأقصى، وهو رقم قياسي لم يشهد له التاريخ مثيلاَ، ولم تسمع أيضاً بقرار إقفال الأقصى ولا بالمدينة التي بنيت أسفله ولا بالأحماض الكيميائية التي سُكبت على أساساته لدفعه للانهيار في أيّ لحظة من اللحظات. أضعف الإيمان أن تبادر الدول العربية إلى قطع علاقاتها مع «إسرائيل» وإلى إقفال سفاراتها فيها ووقف أيّ شكل من أشكال التطبيع معها. فالمطلوب اليوم وقفة عزّ وشرف ونضال مع الشعب الفلسطيني، وأن يتحرّك أحرار العرب والمسلمين مع الفلسطينيين في الداخل وفي ديار الشتات للدفاع عن القضية الفلسطينية.

غير أنّنا لا نعوّل لمواجهة التحديات إلا على محور المقاومة، ذلك أنّ كلّ الانتصارات على العدو تحققت بفضل هذا المحور، ابتداءً من الانتصار الذي تحقق على العدو في جنوب لبنان إلى غزة، فإلى الانتصار على التكفيريين في سورية والعراق وفلسطين ولبنان. ولا نغالي إذا قلنا بأنّ الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» قد تكون الخطوة الأولى التي سوف تعيد تلاحم قوى المقاومة لتحرير فلسطين، وقد تكون صفقة القرن التي يمهّد لها ترامب ونتنياهو، الصفقة القاضية لكلّ من قد يسير خلفها، بائعاً القضية والمقدّسات وحقوق الملايين من الفلسطينيين. ترامب أطلق عليها تسمية الصفقة النهائية، وهي نهائية بحق، لأنها سوف تنهي «إسرائيل» من الوجود، بعدما أشعلت فتيل الصراع من جديد، ووحّدت الشعوب خلف سلاحَي الانتفاضة والمقاومة. إنما على الجمهور العربي والإسلامي بشكل عام، أن ينتفضّ ويُعبر عن إرادته الرافضة لشرعنة احتلال القدس ولكلّ عبث بمصير القضية الفلسطينية. كما يجب أن تتعزّز الوحدة الفلسطينيينة في هذه المرحلة الحرجة، وألا تتزعزع مقاومتها الموحّدة لهذا الاحتلال البغيض الذي ما فتئ ينتهك كلّ أنواع الحرمات.

إنّ هنالك حقيقة دامغة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، وهي أنّ الانتفاضة الشعبية والمقاومة قد أضحت شأناً يُحسب له ألف حساب. وأنّ الانتصار على العدو، لم يتحقق إلا من خلال اعتماد أسلوب الحروب غير التقليدية، أسلوب حرب المقاومة، التي حقّقت الانتصارات الاستراتيجية على العدو، وكسرت شوكته، وأسقطت هيبته ووهم تفوقه، أذهلت العالم أجمع ببطولاتها.

وأخيراً، يقدّر أنّ مئات «الإسرائيليين» قتلوا أثناء أحداث الانتفاضة الأولى على يد مقاومين فلسطينيين، وآلاف «الإسرائيليين» قتلوا أيضاً وعشرات الآلاف جرحوا أثناء أحداث انتفاضة الأقصى، وتمّ اختراع أوّل صاروخ محليّ الصنع في فلسطين، وتطوّرت قدرات الفصائل المقاومة وصنعت صواريخ كثيرة تطال الكيان الصهيوني برمّته وتمّ قصفه بها، الأمر الذي أرعب «إسرائيل»، ولم يعُد جدار الفصل العنصري «الإسرائيلي» قادراً على الحدّ من الخسائر التي تصيب الجنود والمستوطنات. أما الانتفاضة الثالثة، والتي سمّاها «الإسرئيليون» بثورة الرعب، لأنها حوّلت المدينة المقدسة مدينة أشباح خالية من أيّ وجود أو تحرك «إسرائيلي»، فلا حضور أو حركة أو وجود للمستوطنين «الإسرائيليين» الذين كانت تعجّ بهم شوارع القدس قبل أحداث الانتفاضة، ولم يقتصر الأمر على المدينة المقدسة فحسب، وإنما طالت مدناً ومناطق «إسرائيلية» متعدّدة تعيش الظروف ذاتها التي كانت تعيشها القدس المحتلة. أما اليوم، فإنّ «إسرائيل» سوف تواجه رعبها من جديد، وستنطلق الانتفاضات المتتالية الواحدة تلو الأخرى، مؤكدين بأنّ أمة فيها مقاومة وأحرار لا خوف عليها أبداً!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى