لبنان يفتح المواجهة البرلمانية: برّي: تمهيدٌ للتوطين رعد: المقاومة الردّ فارس: لا نأيَ هنا

كتب المحرّر السياسي

لم ينجح الأميركيون بتمرير القرار الذي شرّع احتلال القدس مع ثالث يوم على صدوره ولا زال الحدث المحوري في الساحة الدولية، وساحات العالم منفردة، كما في ميادين فلسطين، وساحات التظاهر الآخذة في الاتساع كمّاً ونوعاً، وصولاً إلى احتلال أروقة المؤتمرات والبرلمانات التي افتتحها البرلمان اللبناني بمبادرة من رئيسه نبيه بري وتتواصل من الغد بمؤتمر لوزراء الخارجية العرب، والأربعاء بمؤتمر لقمة دول مجلس التعاون الإسلامي يشارك فيها لبنان برئيسه المسيحي ميشال عون.

نجح الأميركيون بصرف الأنظار عن كلّ أمر ما عدا القدس، إنْ كان لديهم ما يستحق إشعال الفتيل الذي يصلح للإشعال مرة واحدة وتسقط محاولات إطفائه بعدها، وقد يحرق العالم قبل أن تستحق مشاريع استثماره لتغطية الخيبات الأميركية و«الإسرائيلية» بعجرفة وهم القوة، فيضيف إليها خيبة جديدة قد تكون الخيبة الكبرى، كما أوحت الكلمات التي فنّدت القرار الأميركي من أعلى منبر دولي في الأمم المتحدة، في اجتماع لمجلس الأمن الدولي، كادت تتطابق فيه مضامين كلمات أصدقاء واشنطن وكلمات خصومها، في تظهير المخالفات القانونية للقرار الأميركي، وحجم الأخطار التي يبشر بها، والكلّ مجمع على أنه يفتح صندوق العجائب والأفاعي باندورا، الذي لا يستيطع أحد التكهّن بما يليه، ولا يملك أحد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بعد فتحه.

لا حاجة لتوهّم بصدور قرار يدين واشنطن وينصر فلسطين كي تكون جلسة مجلس الأمن قد حققت المُراد، فيكفي أنّ أميركا وقفت بجبروتها كله، وهي تملك كلّ القوة أمام القدس التي لا تملك شيئاً إلا الحق، فظهرت أميركا منعزلة عاجزة مرتبكة متلعثمة، وظهرت القدس عروس المؤتمرات وليست عروس المدائن فقط، وبيدها وحدها مفاتيح السلام، تثبت أنّ الحقّ لا تقتله القوة ولا يطويه الزمن ولا يغطيه غبار الفذلكات الكلامية.

بلسان هذا الحقّ خرج الفلسطينيون بحجارتهم وقبضاتهم وحناجرهم يواجهون القوة الإسرائيلية كلها ويسقطون شهداء وجرحى، ليكتبوا عبارة واحدة، لن تمرّوا ولن تمرّ قراراتكم ودمنا مقابل حبركم، وستكتب الأيام لمن الغلبة للدم القاني أم للحبر الزائل.

بلسان الحق ذاته لبّت عواصم عربية وإسلامية وعالمية نداء القدس من بغداد إلى دمشق والجزائر وتونس والبحرين. وفاجأ اليمن الجميع بتظاهرة حاشدة تعجّ بها شوارع صنعاء الجريحة التي لم تتأخّر عن القدس يوماً، ووصل صدى النداء إلى لندن ونيويورك مروراً بباكستان وأندونيسيا والهند، وصولاً إلى واشنطن نفسها التي شهدت تجمّعاً احتجاجياً أمام البيت الأبيض.

بلسان الحبر المزيِّف للحق سيصل نائب الرئيس الأميركي مايك بنس إلى المنطقة، سعياً للقاء الحلفاء الذين شاركوا حكومة بلاده حروبها وشاركوا رئيسه صفقات العمر الفاشلة، وبعيون المنتفضين في فلسطين ستراقب الشعوب مَن سيعلن انضمامه للغاضبين في القدس، وأوّل الغيث موقف شيخ الأزهر الذي أعلن رفض استقبال بنس، بينما النقاش الفلسطيني يضع الرئيس محمود عباس على لائحة الانتظار بين تأكيدات قيادة حركة فتح قرار مقاطعة زيارة بنس وتريّث في دوائر السلطة بإصدار موقف نهائي.

المواجهة البرلمانية مع القرار الأميركي التي افتتحها المجلس النيابي بدعوة الرئيس نبيه بري، حجبت الأضواء عن مؤتمر باريس المنعقد تحت عنوان أصدقاء لبنان بمشاركة رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل، والذي كشف حجم حضور قضية النازحين السوريين الذين يستضيفهم لبنان في حسابات السياسة الأوروبية المهتمّة بحفظ استقرار لبنان، وكشف كلاماً أميركياً عن حجم التهميش الذي يلحق بالقيادة السعودية، مع إشارات وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون لحاجة السياسة السعودية لضبط أدائها بعقلانية نحو قطر واليمن ولبنان، ليقول إنّ ما ورد في بيان المؤتمر عن الترحيب بعودة الرئيس الحريري إلى لبنان يُقصد به، عودة الحريري إلى حريته بعد احتجازه في السعودية، بينما بدت السعودية هامشية لمرة أولى في مؤتمر دولي موضوعه لبنان، والاقتصاد فيه أساساً.

في الجلسة النيابية المخصّصة للقدس كانت كلمة الرئيس بري كافية لدق أجراس الخطر للبنانيين، بأنّ مَن يتجرأ على القدس اليوم لا محرّمات ستمنعه من التجرّؤ لفرض التوطين غداً، وكانت الجلسة مناسبة لمواقف تلاقت من مصادر الخلاف اللبناني التقليدي حول القدس وإدانة القرار الأميركي من الكتل التي كانت دائماً تجاهر بالدفاع عن السياسات الأميركية وتحرص على عدم إغضاب واشنطن، وتسعى لخطب ودّها وتقديم أوراق الاعتماد لها بالتهجّم على المقاومة، فتلاقت مواقف القوات اللبنانية وتيار المستقبل مع مواقف الكتل المساندة للمقاومة، بإدانة القرار الأميركي والتمسك بالقدس عاصمة لفلسطين، ليضيف رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد حبّة البركة، بالتأكيد أن لا خيار إلا المقاومة، ويضع النائب مروان فارس الذي تحدّث باسم الكتلة القومية، بين قوسين إشارة لفت الانتباه، إلى أن «لا مكان للنأي بالنفس هنا، لا عن القدس ولا عن فلسطين».

وثيقة برلمانية حول القدس

لليوم الثاني على التوالي احتلّ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول القدس الاهتمام المحلي، بعد أن تحولت القدس قضية عالمية، استدعت تحركاً عربياً ودولياً وإسلامياً لمواجهة الخطوات التصعيدية الأميركية. حيث تلقى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون دعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحضور القمة الإسلامية الطارئة في اسطنبول التي ستعقد الأسبوع المقبل للبحث في قضية القدس.

وتحت راية فلسطين وبعيداً عن القضايا والملفات الخلافية التي وُضِعت على رصيف الانتظار والتأجيل حتى عودة رئيس الحكومة سعد الحريري الذي شارك في مؤتمر مجموعة الدعم الدولية للبنان في باريس، توحّد لبنان برؤسائه وحكومته ومجلسه النيابي وأحزابه وقواه السياسية وشعبه.

وأدان المجلس النيابي في جلسة استثنائية عقدها أمس، حول القدس، قرار الرئيس الأميركي، وبعد كلمة للرئيس بري أكد فيها أن «القرار ما هو إلا التمهيد اللازم لقضية العصر لتهويد كل فلسطين وتثبيت التوطين بعد الاستيطان وأن مَن يتجرّأ على القدس يتجرّأ على كنيسة القيامة وعلى كل فلسطين، توالى رؤساء الكتل والنواب المستقلون على إلقاء الكلمات التي أجمعت على رفض الخطوات الأميركية والتأكيد على أن القدس عاصمة لفلسطين.

وفي ختام الجلسة أصدر المجلس توصية بالإجماع واعتبارها وثيقة رسمية باسم الشعب اللبناني وإرسالها إلى الحكومة وإلى الإدارة الأميركية وإلى مجلس الأمن الدولي وأعضائه وإلى الجمعية العامة للامم المتحدة والى الامم المتحدة. كما كشف الرئيس بري أن اتحاد البرلمانات العربية سيُعقد في المغرب الأربعاء المقبل جلسة استثنائية للبحث في قضية القدس.

وتتضمّن التوصية التالي: «دعم حق الشعب الفلسطيني في مقاومته ونضاله المشروع للتخلّص من الاحتلال الإسرائيلي لنيل كل حقوقه في العودة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، رفض موقف الإدارة الأميركية بشأن إقفال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، إدانة قرار الاحتلال الاسرائيلي الاستمرار في مشاريعه الاستيطانية الاستعمارية في أراضي دولة فلسطين المحتلة، إخلاء سبيل البرلمانيين الفلسطينيين المختطفين والمعتقلين في سجون الاحتلال».

«القومي»: لا قوة تضاهي قوة حقنا في فلسطين

أما في كلمات رؤساء الكتل النيابية، فقد شدّد النائب مروان فارس الذي تحدث باسم الكتلة القوميّة الاجتماعيّة، فأشار الى أننا «لا نرى في اعتراف رئيس الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال أية مفاعيل قانونيّة، لكنّه ضرب عُرض الحائط بالقانون الدولي والمواثيق والأعراف الدولية، وأكد للعالم أجمع أن دولة أميركا العظمى، دولة ترعى الاحتلال وتدعم الإرهاب، وتقف ضد القضايا العادلة والمحقة وضد الشعوب المحتلة أراضيها».

وطالب فارس بأن «لا ينأى لبنان بنفسه، عن قضية فلسطين العادلة، وأن يكون في طليعة الدول التي تُعيد توجيه البوصلة باتجاه فلسطين، وتعزيز فكرة المقاومة والحضّ عليها من أجل حق التحرير والعودة».

واقترح فارس باسم الحزب السوري القومي الاجتماعي وكتلته النيابية، أن تصدر عن هذه الجلسة مذكّرة للبرلمانات العربية والعالمية تتضمّن النقاط الآتية: ـ إدانة قرار الرئيس الأميركي بشأن القدس، واعتباره قراراً باطلاً لكونه يناقض مبدأ الحقوق المشروعة لشعبنا الفلسطيني، ومبادئ القانون الدولي.

ـ التوجّه إلى مؤسسات الأمم المتحدة، وممارسة كل أشكال الضغط لإصدار قرارات تؤكد حق شعبنا في مقاومة الاحتلال حتى زوال هذا الاحتلال عن القدس وكل فلسطين.

ـ عقد اجتماع طارئ للبرلمانات في العالم العربي، وإصدار قرار يؤكد القدس عاصمة لفلسطين، ويضع آليات واضحة ويحدد الإجراءات والخطوات لترجمة هذا القرار. بموازاة ممارسة كل أشكال الضغط على الهيئات الدولية من أجل إعادة الاعتبار للقرار 3379 الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية.

ـ إطلاق أكبر حملة للتعريف بفلسطين حضارة وتاريخاً وانتماء، وتأكيد حق أهلها في ممارسة كل أشكال المقاومة، وإعلان موقف حازم برفض كل مفاعيل الاتفاقات والمسارات التفاوضية التي حصلت منذ كمب ديفيد إلى أوسلو إلى وادي عربة، على قاعدة أن فلسطين كل فلسطين، هي للفلسطينيين وليس للصهاينة الغزاة والمحتلين فيها أدنى حق.

رعد: القرار شرعنة لاحتلال القدس

ورأى رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد أن «الإعلان الأميركي قرصنة ماكرة تهدف الى شرعنة احتلال القدس والاعتداء على هويتها»، ودعا «الجميع، شعوباً وقوى وحكومات، الى تبنّي برنامج المواجهة الذي عرض لبعض مفرداته سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، واثقين من مفاعيله وتأثيره البالغ في مواجهة الإعلان العدواني». ودعا لأن «يحتضن لبنان مؤتمراً دولياً إسلامياً مسيحياً جامعاً للدفاع عن القدس ورمزيتها وعروبتها وقدسيتها ولرفض تهويدها وصهينتها».

على المستوى الشعبي شهدت المناطق اللبنانية تحركات عدة تنديداً بالقرار الأميركي على أن تستكمل في الايام المقبلة، حيث تداعت الاحزاب الوطنية الى تحرّك اليوم في صيدا، والأحد أمام السفارة الأميركية في عوكر. وأصدرت السفارة الأميركية في لبنان بياناً ذكّرت فيه رعاياها بضرورة أخذ الحذر والحيطة، معلنة أنها ألغت كلّ نشاطاتها غير الضرورية يوم الاحد.

الفلسطينيون: الموقف اللبناني متقدّم ومميّز

التحرك اللبناني الواسع على المستويات كافة لاقى ترحيباً وارتياحاً كبيراً لدى الشعب الفلسطيني في لبنان وفلسطين ودول الشتات، وأشارت مصادر في المقاومة الفلسطينية في لبنان لـ «البناء» الى أهمية التحرك اللبناني المتقدّم على المستوى الرسمي النيابي والحزبي والشعبي في مواجهة قرار الرئيس الأميركي والوقوف الى جانب القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، ما يؤكد تلاحم الموقفين اللبناني والفلسطيني ووحدة القضية لا سيما في ظل صمت دول عربية عدّة وتجاهلها التداعيات الخطيرة للخطوات الأميركية العدوانية بحق المقدسات».

ولفتت المصادر الى أن «هذا التحرك اللبناني المميز والتحركات المقبلة في الشارع الذي ستجمع اللبنانيين والفلسطينيين في المخيمات في ساحة واحدة ستشكل رسالة قوية لواشنطن وكيان الاحتلال، بأن فلسطين ليست وحدها في المواجهة ولن يُستفرد الفلسطينيون»، معربة عن تقديرها لدعوة رئيس المجلس النيابي اتحاد البرلمانات العربية للانعقاد وإصدار توصيات للحكومات العربية برفض القرارات الأميركية والضغط على الحكومات لمواجهتها وتحريك الشعوب العربية للتظاهر». ولفتت الى أن الشعب الفلسطيني بات أكثر قناعة بخيار المقاومة الذي تلعب المقاومة في لبنان رأس حربته بقيادة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الى جانب حركات وفصائل المقاومة الفلسطينية، وأوضحت أن «قرار ترامب أسقط الآمال الأخيرة التي تمسك بها البعض لاستعادة الحقوق من خلال التفاوض وأن هذا الخيار لم يؤد إلا الى مزيدٍ من الوهن والاستسلام وهضم وقضم الأرض الفلسطينية والمقدسات والتمادي الأميركي والإسرائيلي في تصفية القضية».

مؤتمر باريس: تحصين مظلة الاستقرار

وبعد أن طوى لبنان أزمته السياسية وفتح صفحة جديدة، بدعمٍ إقليمي ودولي عنوانه استقرار لبنان، شكل مؤتمر مجموعة الدعم الدولي للبنان الذي عقد أمس في باريس، مزيداً من تحصين مظلة الاستقرار الدولية فوق لبنان.

وشدّد البيان الختامي للمؤتمر على «ضرورة حماية لبنان من الأزمات التي تزعزع استقرار الشرق الأوسط»، داعياً «جميع الدول والمنظمات الإقليمية إلى العمل من أجل حفظ الاستقرار والأمن السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين والماليين في لبنان، في ظلّ مراعاة سيادة لبنان وسلامة أراضيه على نحو تام».

وفي حين أشارت المصادر الى زيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى لبنان في نيسان المقبل، أكد ماكرون بعد مؤتمر صحافي مشترك مع الحريري، أن «الأزمة الأخيرة في لبنان سبّبتها العوامل المحلية والتوترات الإقليمية»، مشدداً على أن «على جميع الفرقاء في لبنان احترام مبدأ النأي بالنفس، لان تدخّل المجموعات المسلحة اللبنانية في الأزمات لا يمكن ان يستمر، وعلى حزب الله احترام النأي بالنفس»، مشيراً ايضاً الى ان «ينبغي ألا تتدخل قوى خارجية في شؤون لبنان». ونوّه بشجاعة الجيش اللبناني الذي انتصر على داعش، مشدّداً على التنفيذ الكامل للقرار 1701، ومحيياً «لبنان على استقباله ملايين النازحين».

بدوره أشار الرئيس الحريري بعد لقائه ماكرون الى أن «سياسة النأي بالنفس التي أعادت حكومتي التأكيد عليها، وتبنتها كل مكوناتها السياسية، ستسمح لنا بالحفاظ على وحدتنا الوطنية في إطار احترام الإجماع العربي. لكن استقرار لبنان يمرّ حتماً بقدرته على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة بشكل رئيس عن الأزمة السورية». وأوضح أن «مصرف لبنان والقطاع المصرفي اللبناني برمّته يواصل ضمان الامتثال الكامل للقوانين والقواعد الدولية ولأفضل الممارسات المصرفية».

وعلى هامش المؤتمر التقى الحريري وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون، بحضور وزير الخارجية جبران باسيل ومدير مكتبه نادر الحريري.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى