هل ينجح الأميركيون في تمديد الأزمات؟

د. وفيق إبراهيم

ترفض السياسة الأميركية الإقرار بأنّ منظمة «داعش» الإرهابية انتهت كمشروع سياسي لدولة متطرّفة تمتدّ بين سورية والعراق، لذلك تتحاشى الاعتراف بأنّها لم تعُد موجودة إلا على مستوى بؤر صغيرة لا تشكّل بناءً عسكرياً متكاملاً له أبعاد دولية على الرغم من امتلاكه أدوات لتنفيذ عمليات مبعثرة يحدث مثلها في معظم الدول.

في المقابل، يحشد الأميركيون كامل أوراقهم من اليمن إلى سورية، فيظهرون كالمجانين الذين فقدوا شيئاً عزيزاً يحاولون استعادته بالطبل والزمر والصراخ… ومحاولات تشكيل آليات جديدة.

على المستوى العملي، تعلن واشنطن بوقاحة رفضها سحب قوّاتها المنتشرة من الحدود العراقية السوريّة على طول الجانب الشرقي من نهر الفرات، وحتى الحدود مع تركيا في منطقة تشكّل عشرين في المئة من سورية.

هناك سؤالان عن طبيعة الآليات الجديدة التي تخترعها واشنطن لإعادة تجديد الأزمات والأهداف المرجوّة منها. وتنبثق بالطبع أسئلة مقابلة من فريق المقاومة وحليفه الروسي عن الطرق المناسبة لمنع هذا التجديد والدّفع باتجاه ترجمة الانتصارات العسكرية سياسياً، وبأسرع وقت ممكن، لاحتواء التمرّد الأميركي.

سوريّاً: أعلنت واشنطن تأسيس «جيش سورية الجديد» ليتبيّن آنفاً أنّه يضمّ 300 مدرّب أميركي و800 عنصر مما يُسمّى «الجيش الحر». وتمكّن الأميركيون من تنظيم انسحاب نحو خمسة آلاف مقاتل «داعشي» كانوا محاصرين في دير الزور التي حرّرها الجيش السوري مؤخّراً، مؤسسين بهم هذا «الجيش الجديد» الذي يتدرّب حالياً برعاية القوات الكردية، ويخضع أيضاً لدروس هدفها استئصال الفكر الـ «داعشي» منهم، وطبعاً على الطريقة الأميركية المتخصّصة في شؤون منظمة «القاعدة» في أفغانستان منذ سبعينيات القرن الماضي، والعودة إلى الأرشيف الإعلامي الغربي ضرورية لتبيان العلاقة الرحمية بين المخابرات الأميركية والسعودية مع القاعدة وبن لادن.

أمّا النقطة الثانية الأكثر خطورة، فهي رفض أميركي للانسحاب من سورية تقاطع مع تعمّد الطيران الأميركي قطع الطرق الجويّة أمام الطيران الروسي في مناطق سوريّة تخضع لتفاهمات سابقة بين الطرفين ما يعطّل دورها في محاربة الإرهاب ويمنعها من قصف الـ «داعشيين» المستظلّين العباءة الأميركية في «جيش سورية الجديد»، الأمر الذي يوضح أنّ هذا «الوليد اللقيط» هو آلية أميركية لاستمرار الأزمة السوريّة، وتدأب المخابرات الأميركية على الإسراع في تشكيله للزجّ به في الميدان في أوقات قريبة. هذا يعني حكماً الاستمرار في الأزمة بلبوس جديد، كان في السابق سوريّاً إرهابياً، ويبدو أنّ واشنطن بصدد تحويله صراعاً سوريّاً سورياً بأبعاد «ديمقراطية» و»عرقية» على الطريقة الأميركية المتخصّصة في تفتيت الشعوب.

لجهة العراق، تلعب واشنطن على خطّ الحشد الشعبي، فتفتعل عبر أدواتها في بغداد صراعاً بين جهتين عراقيّتين واحدة تطالب بدمجه في الجيش العراقي مرجعية السيستاني دمجاً كاملاً، وذلك مكافأة له على دوره في تحرير أرض الرافدين من «داعش» وأعوانها، وهناك جهة ثانية النجيفيون وعراقيو تركيا يطالبون بحلّه وتجريده من أسلحته، وهذا يعاود إثارة صراع كبير في عراق لم يتعالج بعد كفاية لما أحدثته السياسات الأميركية من ندوب طائفية ومذهبية وعرقية في نسيجه الاجتماعي. هذه الإشكالات، إلى جانب الكرد في «إقليمهم»، ونحو تسع قواعد عسكرية أميركية موجودة في «أرض السواد»، بالإضافة إلى الانتخابات المقبلة التي يريد منها الأميركيون تفجير العلاقات بين أبناء الصف السياسي الواحد، تعتقد واشنطن أنّ من شأنها إبقاء العراق ضعيفاً وخاضعاً للنفوذ الأميركي، إلى جانب نفوذ إيراني طفيف، ونفوذين سعودي مذهبي وتركي جغرافي واقتصادي، من خلال أنابيب النفط العراقية العابرة إلى بحار تركيا.

أمّا الأكثر طرافة، فهي مسألة مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، بدليل أنّ السياسات الأميركية والسعودية لا تهمل حتى دقيقة واحدة للنواح والعويل عليه، وتتناسى أنّها حاولت اغتياله قبل سنين عدة لإنهاء دوره السياسي، متجاهلة أيضاً أنّ هذه المحاولة هي التي دفعته لمحالفة أنصار الله.

اليمن اليوم، جزء محوري أساسي من مشروع التمديد الأميركي لأزمات «الشرق الأوسط»، وممثّلة أميركا في مجلس الأمن نيكي هايلي وقفت في مؤتمر صحافي أمام بقايا صاروخ، قالت إنّ إيران أطلقته من اليمن الحوثي على السعودية، وطالبت بإنشاء تحالف دولي «شرق أوسطي» عربي إسلامي لردع إيران في أذرعتها في المنطقة، أيّ، كما يزعمون، في العراق وسورية واليمن ولبنان. وهذه دعوة صريحة لإنشاء «ناتو إسلامي» برعاية أميركية وتمويل سعودي هدفه الأميركي تأمين استمرار قوي للنفوذ الأميركي في العالم الإسلامي عن طريق محاصرة إيران وروسيا والصين، أمّا هدفه السعودي فهو تفتيت العالم الإسلامي والقضاء على المنافسين في ما يسمّيه «جبيرها» الأذرع الأربعة في صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت.

هذا يوضح مدى تلازم الهجمات الأميركية في سورية والعراق واليمن مع تجديد الأزمات، إنّما بشعارات وآليات جديدة.

لذلك، توصل واشنطن نهارها بليلها، لأنّها وجدت نفسها بعد التقاء الجيشين السوري والعراقي عند حدوديهما، كمن خسر معظم سوطته التاريخية.

كما وجدت أنّ مسألة الاعتراف بالقدس عاصمة لـ»إسرائيل» ونقل السفارة الأميركية إليها، أعاد تجميع الوجدان العربي الغاضب ضمن فريق «المقاومات» الرافضة للنفوذ الأميركي و»إسرائيل» معاً… ويتّجه نحو التشكّل ضمن آليات هذه المقاومة، معلناً وجود ثلاثة أطراف حول قضية فلسطين و»قدسها» فريق مقاوم يعمل على تحرير كامل فلسطين المحتلة انطلاقاً من تحرير الضفّة وقطاع غزة مع القدس، وفريق يكتفي بحلّ الدولتين وعاصمتهما القدس الشرقية والغربية مع تبادل في الأراضي بين نحو 25 في المئة من مساحة الضفة الغربية مقابل ما يعادلها في صحراء النقب، أمّا الفريق الثالث بقيادة السعودية فلا يأبه لمسألة فلسطين، مسجّلاً اهتمامه بتعميق تحالفه مع «إسرائيل» كذراع عسكرية في وجه إيران والشعوب العربية المتمرّدة على حكّامها الديكتاتوريين.

لذلك، فإنّ واشنطن بحاجة إلى تمديد إضافي للحروب في الإقليم كي تعاود نصب سلطانها وسطوتها، وإذا كان الرئيس التركي أردوغان استغلّ موضوع القدس لتجديد أدواره في المنطقة بخطاب تصعيدي يناقض علاقات بلاده العميقة بـ«إسرائيل»، أفلا تستطيع واشنطن اعتماد أسلوب يُعيدها إلى المربّع الأول: الفتنة السنّية الشيعية، والخلاف الفارسي العربي.

وبذلك تجدّد الأزمات شبابها المتفجّر برعاية أميركية، فتموت قضية القدس، ومعها كامل قضية فلسطين، وتتلاشى «فورات» الغضب الإسلامية والعربية، والدليل أنّ البيت الأبيض لم يتعلّم من اعترافه بالقدس، بل تمادى مطالباً بإعطاء حائط البراق لـ «إسرائيل» بزعم أنّه حائط المبكى التوراتي، وهذا وحده كفيل بتفجير أزمات كبيرة في العالم الإسلامي.

المنطقة اليوم تغلي، على أمل أن ينجح حلف المقاومة بعمليات التشكيل التي تحوّل الغضب الآنيّ مشروعاً سياسياً مقاوماً يُعيد للمشرق العربي فلسطين المحتلة، محرّراً كامل المنطقة من القواعد الأميركية وديكتاتورياتها القرون أوسطية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى