نزوات ترامب تتبدّد مع انحسار سطوة أميركا في العالم…

د. عصام نعمان

كثيرون في الولايات المتحدة يرفضون أن يقرنوا اسم ترامب بلقب «الرئيس». يدعونه دونالد ترامب فقط. بعضٌ من هؤلاء يتناوله بالشتيمة والأوصاف المهينة، فلا يتورّع هو عن الردّ بالمثل. صحيفة «يو أس آي توداي» اعتبرته «غير أهل حتى لـِ تنظيف المراحيض في مكتب الرئيس السابق باراك أوباما أو تلميع حذاء الرئيس السابق جورج بوش الابن». هذه الصحيفة المعروفة بتجنّبها استخدام مفردات قاسية فعلت ذلك تحت وطأة ما أسمته انحطاطاً متزايداً في تغريدات ترامب الفظّة، ومنها زعمه أن السيناتورة الديمقراطية كريستين جيليبراندا كانت مستعدّة لإقامة علاقات جنسية من أجل تمويل حملتها الانتخابية!

دولة عظمى يديرها رئيسها بتغريدات بل بنزوات يومية على «تويتر»، ويتخاطب سياسيوها بأقذع الألفاظ في وسائل الإعلام، هل يمكن أن تؤخذ على محمل الجدّ عندما يعلن هذا الرئيس او أحد مسؤوليها موقفاً او سياسةً يعتزم انتهاجها؟

يثير هذا الوضع الغريب داخل أميركا نفسها، كما في علاقاتها مع الخارج ملاحظات وتساؤلات كثيرة، أبرزها ثلاث:

أولاها، أن الولايات المتحدة تجد نفسها لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية في عالم لم يعُد أميركياً، بمعنى أن سيطرتها ونفوذها أصبحا في حال انحسار مطّرد نتيجةَ نجاح دول كبرى ومتوسطة وحتى صغرى في تحرير إرادتها من سطوة ذلك العملاق الذي كان مستأسداً. ولعل أبلغ شاهد على تلك العزلةُ التي تجد واشنطن نفسها فيها اليوم نتيجةَ قرار ترامب العدواني الاعتراف بالقدس عاصمةً لـ «إسرائيل» ونقل سفارته اليها. ذلك أن الدول العربية والإسلامية، ودول الاتحاد الاوروبي، وروسيا والصين، ناهيك عن دول عدّة آسيوية واميركية جنوبية وأفريقية جاهرت برفضها مخالفة ترامب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

ثانيتها، إن أركاناً نافذين في الدولة الاميركية العميقة Deep State ووسائل الإعلام النافذة أبدت امتعاضاً وتبرماً بقرار ترامب المتهوّر لكونه يحرم واشنطن، بلا مسوّغ، دورها التقليدي القديم كراعٍ ووسيط في الصراع العربي- «الإسرائيلي».

ثالثتها، أن نزوات ترامب، من بين عوامل أخرى فاعلة، وضعت الولايات المتحدة في وضع غير مسبوق من حيث مواجهة ازمات وتحديات كبرى عدّة في آن: تهويد القدس في وجه عالم العرب والمسلمين الساخطين مستقبل سورية بعد اندحار «داعش» وأخواته من جهة ومن جهة أخرى اشتداد ساعد الحكومة المركزية في دمشق وإصرارها على تحرير المناطق القليلة الباقية خارج سيطرتها ما يؤدي الى استعادة سورية وحدتها وسيادتها انهيار المشروع الكردي الانفصالي في العراق وأرجحية انهياره في شمال سورية أيضاً الأمر الذي أفقد واشنطن احد افعل أسلحتها الاقليمية إخفاق السعودية وحلفائها في تطويع اليمن ووضعه تحت عباءة نفوذها والتداعيات الناجمة عن استمرار الحرب وما تتسبّب به من مجازر وتدمير ومجاعة وامراض استقـواء أطراف محور المقاومة، سياسياً وعسكرياً. الأمر الذي أثار قلق «إسرائيل» مـن إمكانية بناء جبهة مقاومـة لبنانية – سورية على طول حدودها مع لبنان وسورية شماليّ فلسطين المحتلة إمعان كوريا الشمالية في تحدي محاولات أميركا الرامية إلى إحباط مشروعها النووي، خصوصاً بعد تمكّنها من النجاح في تجريب صواريخ بالستية يصل مداها الى الولايات المتحدة نفسها.

في غمرة هذه الأزمات والتحديات، ينبري ترامب الى افتعال أزمة جديدة مع إيران تصبّ مزيداً من الزيت على نار الصراع بينهما. ففي خطاب مفاجئ ألقته في قاعدة عسكرية في واشنطن، استعرضت سفيرته في الأمم المتحدة نيكي هايلي مجموعةً من بقايا ما زعمت أنه صاروخ إيراني الصنع أُطلق من اليمن على مطار الرياض ما يشير، في رأيها، إلى قيام طهران بتسليح جماعة أنصار الله في صنعاء، وبالتالي تهديد الأمن والسلم الدوليين. ولم تكتفِ هايلي بذلك بل أعلنت أيضاً اعتزام واشنطن بناء تحالف دولي يتصدى لإيران.

ما سرّ نزوة ترامب الجديدة ومآلها؟

صحيح أن الدافع الأول لنزوة ترامب هذه هو تعويض تراجع قوته السياسية وتكاثر أعدائه وتقلّص عدد مؤيديه بين الناس وفي الكونغرس، إلاّ أن اندفاعته الجديدة ضد ايران تأثرت، بلا شك، بما سبق بيانه من خسارات سياسية تكبّدتها واشنطن في سورية والعراق وفلسطين المحتلة وتداعيات هذه الخسارات وارتداداتها عليها وعلى حلفائها. ومن أبرز دوافع شنّ هذه الحملة الجديدة ضد إيران التغطيةُ على تداعيات خسارة واشنطن معركة اعترافها بالقدس عاصمةً لـِ «إسرائيل»، وإجماع العرب والمسلمين على إدانتها، وما يحمله ذلك من احتمالات وازنة لاتساع نفوذ محور المقاومة في صراعه ضد أميركا و«إسرائيل» معاً.

إلى أين من هنا؟

الأرجح أن واشنطن ستحاول، لكنّها لن تنجح، في تطوير عداوتها لإيران وحملتها المتصاعدة عليها إلى أبعد مما وصلت إليه حتى الآن، بدليل أن وزير الدفاع جيمس ماتيس أكد أخيراً ان اميركا ستواجه إيران ديبلوماسياً لا عسكرياً. ذلك لأن إيران وحلفاءها في محور المقاومة كسبوا أخيراً مزيداً من القوة والنفوذ على الصعيدين السياسي والميداني. ثم إن العالم برمّته، ولا سيما دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، تعارض وتناهض محاولات أميركا تعطيل الاتفاق النووي او تجاوز موجباته الملزمة. كل ذلك ينبئ بإخفاق مبكّر لسياسة، بل نزوة، ترامب الجديدة ضد إيران وحلفائها.

أجَل، اميركا تتجه الى تراجع متزايد على جميع المستويات في عالم تحرّر من سطوتها وبات أكثر قدرة على توظيف إرادات دوله في حماية استقلالها وتعزيز مصالحها.

إذا كان هذا هو اتجاه الأحداث في المنعطف الراهن من حركة التاريخ، فماذا تُراها تخطط قيادات قوى المقاومة العربية؟ وماذا ستفعل لتعزيز مواجهتها الطويلة النَفَس للعدو الصهيواميركي؟

إنه سؤال اليوم والغد.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى