بعد أزمة الحريري: القدس وحنكة «ماكرون».. تابع

روزانا رمّال

ربما يكون الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون اكثر العقلاء الاوروبيين في هذه الفترة، ويمكن القول انه يتصرف منذ قدومه للسلطة بما يمكنه من فرض حيثية جديدة لقيادة الشباب الفرنسي في نفس وأسلوب جديدين من الحيوية والبراغماتية، لكن الأهم الشجاعة المتمثلة بتقديم مواقف بلاده وفق مصالح فرنسا التاريخية. هذه المصالح التي تم نسفها مراراً وتكراراً وتعكير صفوها مراراً من قبل الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الخليجية، كالسعودية وقطر، بعد الإفراط في الضغط على رئيسين سابقين لفرنسا فرانسوا هولاند وقبله نيكولا ساركوزي للمشاركة في الدعم السياسي واللوجستي لحروب شرق أوسطية واهية، ودعم الموقف العربي فيها، مثل الحرب على سوريا التي يسعى ماكرون لتجنّب الغوص في ملفها بالكامل سوى لجهة الحديث عن حل سياسي، خصوصاً أن الظروف تغيرت، لكن من دون ان ينتظر الموقف الأميركي العلني من فكرة القبول ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد للمرحلة المقبلة كشريك في الحكم، بل إعلانه ذلك بشكل صريح.

كشف الرئيس ماكرون، خلال أزمة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري او أزمة الاستقالة المريبة من المملكة العربية السعودية عن حنكة سياسية مطلقة، تمثّلت بأخذ مبادرة حل الازمة على عاتقه مع تحرّك سريع، بما تتطلبه المصلحة الفرنسية أولاً واقتناصه لفرص تجعل منه رئيساً فريداً للبلاد، وثانياً تعزّز موقعه بين ابناء شعبه وحلفائه. وعلى هذا الأساس زار ماكرون الرياض معبراً عن عدم قدرته على المسايرة في ما يتعلق باحتجاز رئيس حكومة شرعي في بلاده كسابقة تاريخية لا يمكن تغطيتها بأي حجة قانونية امام المجتمع الدولي، ثم أن المصلحة الفرنسية العليا مع لبنان ورئاسة الجمهورية اللبنانية المتمثلة بالرئيس ميشال عون الذي طلب شخصياً من فرنسا التحرك. وما للرجل من قيمة معنوية ورمزية عند الفرنسيين كرئيس مسيحي مشرقي وازن إضافة الى ما هو أهم ويتمثل بإمكانية خضّ الاستقرار اللبناني الذي يعني أمراً أساسياً، وهو:

أن تفتح أزمة النزوح من جديد على مصراعيها، ففيما لو دخل لبنان في أي اشتباك سياسي واقتتال محلي، فهذا يعني أن تكون ورقة النازحين السوريين هي الاكثر عرضة للضغط فيها على الاوروبيين الذين سيتحضرون لموجة نزوح جديدة عبر البحر المتوسط ما يعني فتح احتمالات تدهور أمني في اوروبا تجهد فرنسا وغيرها من الدول للتعاطي معه بدقة شديدة. وقد زار لبنان من اجل هذا الغرض عدد كبير من مسؤولي الدول الغربية ووزراء الخارجية من اجل بحث الملف مع المسؤولين اللبنانيين، اضافة الى تعاون أمني مشترك بين اجهزة استخبارات لبنانية وغربية في هذا الملف يتراوح بين التنسيق التام والجزئي في عدد كبير من التحركات التي أدّت الى ضبط عدد ليس قليلاً من عمليات إرهابية كانت شبه محقّقة وإلقاء القبض على خلايا إرهابية، جزء منها يتخذ النزوح حاضنة له.

بالعودة لماكرون الذي يعرف اقتناص الفرص، ليقول في كل يوم «أنا مختلف»، فإن اقتناص فرصة التدخل في ازمة الحريري جعلت منه اسماً محبباً عند اللبنانيين، أما اليوم فهو على طريق أكبر وأشمل من التدخل المصيري في ملف «تهويد القدس»، متحدياً يهوداً فرنسيين وآخرين يحسب ماكرون عليهم منذ بداية عمله كمصرفي حكي عن دعم كبير من بعض الأسماء الكبرى الداعمة لـ«إسرائيل» للوصول للرئاسة، لكنه وقف امام الرئيس محمود عباس ليقول له «نحن مع فلسطين» ولا نقبل بالقرار الأميركي هذا، بالإضافة الى إعلانه العزم على زيارة الأراضي المحتلة بعد الأعياد من أجل التباحث في عملية السلام وإمكانية التوصل لصيغة ما يمكنها من وضع الأميركيين أمام واقع كشفت عنه الجمعية العام للأمم المتحدة بعد تصويت دول العالم جميعها ما عدا أصوات لا وزن سياسياً او دولياً لها ضد تهويد القدس.

ماكرون الذي يعرف ان الرئيس محمود عباس استُدعي الى السعودية عقب احتجاز الحريري، يعرف أيضاً انه تم الضغط على عباس من اجل ترقب هذا الأمر، والموافقة على اعلان عاصمة أخرى لفلسطين غير القدس في المرحلة المقبلة. وهو على ما يبدو قرر التدخل في الملف من منطق العارف والمحيط بالأمور علّه قادر على إنزال الأميركيين عن الشجرة. اللافت في كلام عباس إعلانه أمام ماكرون أن السعودية كانت ولا زالت متمسكة بإعلان القدس الشرقية عاصمة لفلسطين ناقلاً ذلك على لسان الملك سلمان، وكأنه راغب بنفي كل ما قيل له أثناء استدعائه الأخير، وذلك ربما إفساحاً للمجال أمام إعادة تصويب الملف بما لا يرتب عليه مواقف محرجة اضافية.

ماكرون نفسه لا يرغب بإلغاء الاتفاق النووي ويعترض على مواقف ترامب. بهذا الإطار يستعد لزيارة طهران أيضاً اوائل العام الجديد وهو أكثر المرشحين بعد أزمة الحريري للعب دور كبير في ما يتعلق بفتح ثغرات للتلاقي بين إيران والمملكة العربية السعودية. كل هذا من دون التطلع الى الوراء. فهو على ما يبدو متمسك جداً بتعزيز الدور الفرنسي في الشرق الأوسط من جديد وإعادة ترتيب الأحجام والأوزان.

حنكة واضحة تتحكم بمبادرات ماكرون الجاهز دائماً لتسلّم مبادرات أكثر حساسية من دون أن يقف موقف المتفرّج او التابع للقرار الأميركي، كما جرت العادة في عهدي ساركوزي وهولاند، وبأسوأ الأحوال يمكن لماكرون أن يكون شريكاً للأميركيين بدلاً من أن يبدو متلقياً خياراتهم فقط..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى