أزمة «المرسوم» أم أزمة «الطائف»؟

محمد حميّة

دخلت أزمة مرسوم ضباط 1994 أسبوعها الثالث، وقد تُوِجت أمس ببيانات سجاليّة بين بعبدا وعين التينة، غير أنّ إطالة أمد الأزمة في ظلّ إغلاق أبواب الحلّ يشكّل دليلاً إضافياً على أنّ القضية لم تعد تنحصر بخلافٍ قانوني على مرسوم لتطال أموراً أعمق تتعلّق من جهة بجوهر وتفسير اتفاق الطائف، وهذا ما ألمح اليه بيان عين التينة، وغياب الكيمياء السياسية بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي من جهة ثانية.

وكما أنّ أزمة المرسوم ليست وليدة اليوم، فإنّها ليست الأولى التي تنشأ بين الرئاسات بعد العام 1992، وما تلبث أن تأخذ بعداً طائفياً، وقد تجلّت تارةً بين الرئاستين الأولى والثالثة، وطوراً بين الثانية والثالثة. وتجلّت أيضاً بين الأولى والثانية غداة وصول الرئيس عون إلى الحكم، ليظهر لاحقاً أنّ اتفاق الطائف هو لُبّ الصراع، فعند كلِّ خلافٍ يتعلّق بشراكة السلطة، يُستحضر الطائف كسلاحٍ سياسي في اللعبة الداخلية، وتطفو المقاربات الدستورية والميثاقية على سطح الخلافات السياسية الموروثة منذ القِدم، فهذا ما حصل عند أزمة استقالة الوزراء الشيعة إبّان حكومة الرئيس فؤاد السنيورة العام 2006، حيث وصف الرئيس برّي وقتذاك الحكومة بـ»البتراء» وغير «الشرعية» وغير «الميثاقية»، وتناقض الفقرة «ي» من مقدّمة الدستور، وتكرّرت الأزمة بين الرئيسين إميل لحود وفؤاد السنيورة في مواقع عدّة، واتخذت طابعاً جديداً طيلة العام الماضي بين عون وبرّي، ظهرت بداية بعدم تصويت برّي وكتلته النيابية إلى العماد عون رغم علمه بفوزه، وتكرّرت خلال أزمة التمديد للمجلس النيابي الذي يعتبره «الجنرال» غير شرعي، الأمر الذي أزعج «الأستاذ» إلى حدٍ كبير، وعندما وقعت البلاد بين محظورَين التمديد أو الفراغ التشريعي، استعمل رئيس الجمهورية صلاحيّته الدستورية في المادة «49» وأجّل انعقاد البرلمان شهراً كاملاً، ثمّ ربط لاحقاً فتح مرسوم دورة استثنائية للمجلس بإقرار قانون انتخاب جديد، على وقع احتدام السِّجال حول القانون، حيث رفض برّي حينذاك القوانين الطائفيّة والمذهبيّة التي واظب على اجتراحها رئيس التيّار الوطني الحرّ الوزير جبران باسيل، واعتبرها مسّاً بالطائف الذي تحدّث عن قانون النسبية الكاملة.

فهل نحن أمام أزمة دستورية تتعلّق بنظرة بعبدا وعين التينة إلى اتفاق الطائف؟ لا سيّما المادة 54 التي تتحدّث عن اشتراك الوزير أو الوزراء المختصون في التوقيع على مراسيم التي يصدرها رئيس الجمهورية، والمادة 56 التي تتحدّث عن ضرورة نشر المراسيم!

مصادر مطّلعة تلخّص الأسباب الخفية للأزمة بالتالي: يريد الرئيس برّي من المعركة الدستورية تثبيت وزارة المال بيد الطائفة الشيعيّة واعتبارها من مكتسبات الطائف، وذلك عبر ربط التوقيع الرابع في الدولة بتجسيد شراكة الطائفة الشيعية وتحقيق التوازن في السلطة.

وعلى رغم الدور الوطني الذي تؤدّيه عين التينة في ملفات عدّة، لكن عينها كانت تراقب بدقّة متناهية مفاعيل «الثنائية الحديثة»، ولم تُخفِ هواجسها من أن تكون على حساب حضور المكوّن الشيعي الذي يعتبر أنّ انضوائه ضمن المحور الإقليمي المنتصر في حروب المنطقة يجب أن يعزّز حضوره في السلطة على الأقلّ في تثبيت التوقيع الرابع في يده.

أمّا سيد بعبدا، فإنّه وفق مصادر سياسية يحاول استعادة حضور الرئيس القوي في المعادلتين الداخلية والخارجية، ويسعى إلى استعادة صلاحيّاته المفقودة والمهدورة عبر الرؤساء السابقين من خلال تكريسها في الممارسة، وإن عجز عن فرضها في النصوص، مُتّكئاً على ظهير إقليمي – دولي التفّ حول بعبدا خلال أزمة احتجاز الرئيس الحريري.

وتسأل مصادر التيّار الوطني الحر: إذا كان العُرف في الطائف تحدّث عن إيلاء وزارة المال للطائفة الشيعة، فكيف ذلك وقد تعاقب عليها وزراء من السنّة منذ حكومة الرئيس رفيق الحريري في العام 1992 حتى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي العام 2011، وأُسنِدت إلى الشيعة في حكومة الرئيس تمام سلام؟ لا سيّما وأنّ لا نصّ دستورياً يكرّس وزارة لطائفة باستثناء الرئاسات الثلاثة!

ووفق المطّلعين على موقف الثنائي الشيعي، فإنّ رئيس حركة أمل لا يركّز على المرسوم بحدّ ذاته بقدر ما يتقصّد الإضاءة على مفهوم إدارة السلطة في ظلّ هواجسه من تحالف الثنائيات المستجدّ، وتجاوز لما كرّسه دستور الطائف من سوابق وأعراف تثبت «الشراكة في الحكم»، ويشيرون لـ»البناء» إلى أنّ «الخلاف نشأ على خلفية آليّة تطبيق المشاركة في ظلّ العام الأول من عهد عون، وإن سُجّلت إنجازات على المستويات الوطنية لم تكن لتحصل لولا تعاون وتوافق الرئاسات، لكن لرئيس المجلس مخاوف من أنّ التحالف الثنائي بدأ يلتهم شيئاً فشيئاً ما كرّسه الطائف و»الخير لإدّام»، ويُقِرّ المطّلعون على موقف برّي بأنّ لا نصّ دستورياً يقول إنّ الماليّة للشيعة، لكنّهم يؤكّدون النقاشات التي حصلت في الطائف حول مسألة كيفيّة إشراك الشيعة في السلطة، فلم يجدوا مخرجاً إلّا منْحهم المالية من دون نصّ، وإقران توقيع وزير المال على المراسيم، لا سيّما وأنّ معظم المراسيم ترتّب أعباءً مالية، ما يجعلها مقرونة بتوقيع وزير المال بشكلٍ شبه دائم.

ويستشهد المطّلعون بتاريخ الحكومات، حيث شغل ثلاثة وزراء شيعة «الماليّة» في ثلاث حكومات:

حكومة الرئيس سليم الحص الأولى بعد الطائف، وأُسندت إلى الوزير الراحل علي الخليل.

حكومة الرئيس الراحل عمر كرامة الثانية، وأيضاً شغلها الوزير الخليل.

حكومة الرئيس رشيد الصلح الثالثة بعد الطائف، وأُسندت إلى الوزير أسعد دياب.

وتشير المصادر إلى أنّه وبعد ترؤّس الرئيس الراحل رفيق الحريري حكومة 1992، حصلت صفقة بين الحريري الأب والمعنيّين بالملف اللبناني حينذاك نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، قضت بتخلّي برّي للرئيس رفيق حريري عن وزارة المال، وبقيت لدى السنّة حتى حكومة ميقاتي.

وتشير بعض المصادر النيابية لـ»البناء» إلى أنّ «الرئيس برّي لا يمانع المداورة في وزارة المال وغيرها التي لم تُكرّس لمذهبٍ معيّن، بل كعرف لتحقيق التوازن»، لكنّها تسأل: كيف تتحقّق الشراكة إذا تمّ التخلّي عن المالية؟ وتحذّر المصادر من اتساع دائرة الأزمة وتفرّعها وتعمّقها، فإنّنا سنكون حينها أمام أزمة طائف، وأنّ الإصرار على تهميش وزير المال في مرسوم الضباط يعكس نوايا لتعديلٍ غير مباشر لمواد دستورية عبر تكريسها بالممارسة، ما يطرح الطائف برمّته على طاولة البحث.

لكن أين يقف رئيس الحكومة في حال مُسّ الطائف، لا سيّما وأنّ بعبدا ألمحت مراراً أنّها لا تمانع من إعادة النظر بالاتفاق وهي لم تكن شريكة فيه؟

أكثر من مرجع سياسي سنّي أبدى خشيةً من أنّ إعادة النظر بالطائف ستخلق مضاعفات وإشكاليات جديدة في الحكم، وأيّ تعديل في الاتفاق سيكون على حساب الطائفة السنّية حيث منحها الطائف مكتسبات، الأمر الذي تتخوّف منه مصادر بيت الوسط أيضاً من أن يُدفع الحريري إلى التنازل، وهذه المرة ليس عن الثوابت السياسية، بل عن صلاحيات رئيس الحكومة الدستورية، ما يشكّل إحراجاً جديداً لرئيس المستقبل ويتحوّل ذلك إلى مادة دسمة لخصومه في الطائفة الواحدة قُبيل الانتخابات النيابيّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى