رحيل على وقع ترنيمات ريم معروف الصوفيّة

محمد رستم

الصوفيّة هي المسلك الذي يقوم على التجربة الباطنيّة القلبيّة بعيداً عن المسلك الجدليّ. ذلك أنّ الله لا يعرف بحسب زعم الصوفيين بالعقل والجدل بل بالقلب. من هنا كان حبّه بل عشقه الطريق المعبّد الواصل إليه من دون منعطفات.

والصوفيّة أولاً وأخيراً إنّما هي توليفة خاصّة لنتاج التقاء الفكر الإيمانيّ الإسلاميّ بالفلسفات اليونانيّة والفارسيّة. لذا كان التجلّي سفينة نوح لهم. زادهم في رحلتهم الزهد. يصوّبون دائماً إلى الجوهر معرضين عن العرض الزائل الذي يعبرونه بشفافية. رؤاهم فمشاعرهم روحانيّة مقطّرة خالية من شوائب العالم المادي وقد صاغ عدد من الصوفيين أحاسيسهم شعراً. ويأتي ابن الفارض هنا عَلماً ومن خارج خيمة الشعر نسمع همس رابعة العدوية التي تؤكّد أنّها تعبد الخالق لا خوفاً من عقابه ولا طمعاً في ثوابه بل حبّا به. وتنعدم الأصوات النسائيّة في هذا المنحى.

فتأتي الشاعرة ريم معروف وهي بكامل بهائها الأنثويّ لتشقّ عصا الطاعة وتتمرّد على تاء التأنيث ممزّقة شرنقة همزة حواء، ولتقفز بعيداً خارج إغواءات نون النسوة فينداح بوحها صوفيّاً ساحراً.

هذه الريم التي تصوغ من نبض الشريان حروف البيان فيضجّ عبق العطر ويتأكّد قول الشاعر: فإنّ المسك بعض دم الغزال…

ويأتي شعرها نفحات عرفانيّة لا تستطيع التخفّف منها فهاجسها التنسّك في مدارات الصوفيّة. هي تركب عتلة الروح يدفعها شوق شديد البهجة في رحلتها الأدبيّة وهي تمتح من تراث محيطها الذي تغلغل في رحاب خوابيها. لذا فهي تجترح مسالك للروح إلى عوالم مأهولة بالصفاء المطلق وبسبب من يقينها الراسخ بأنّها ببصيرتها ستلمح وجه الخالق. فهي تعتمد الشرط الذي بذاته شكل من أشكال الحتميّة فتقول:

إذا نظرت إلى العلياء ألمحه

وجهاً تتوق إليه الأنجم الزهر…

إنّها تنحو بانكشاف تامّ نحو الذات العليّة تدثّرها غلالة الصوفيّة الدافئة. وها هي تهيم على وجهها في وديان المعرفة الروحانيّة يدفعها توق إلى اكتشاف أبعاد هذا العالم الشفيف.

ومرّة أخرى تعتمد الشرط كذلك وسيلة يقينية بتأكيد وقوع الجواب كنتيجة حتميّة لحدوث المقدمة فعل الشرط فتقول:

ولو سلكت دروب الروح أبصره

بيني وبيني فلا حدّ ولا صوَر…

إنّها الكيفيّة التي تصل إليها الحالة الإشراقيّة لحظة التجلّي. هو البخور المتصاعد من شموع الوجد حيث تستحمّ الروح في انتعاش على مدّ النشوة فتقول في لحظة الإشراق الروحاني بات توجهي منصهراً في ذات الخالق، وشفّ كياني حتى غدا بريقاً ينهمر من سنا جلاله.

وتعتمد الشرط مرة ثالثة كإثبات لليقينية فتقول:

أين اتّجهت وحيث حطّ بي ولهي

أصير ظلّاً لظلّ طاف يعتمر…

أي حيثما توجّهت وإلى أيّ مكان يأخذني عشقي تكون الذات الإلهيّة حاضرة وما أنا إلّا خيال لخيال المادة التي تطوف في رحاب هذا الكون.

إنّها الإذابة ذوبان الروح في الذات الإلهيّة . هي التماهي الكامل حيث يغدو عشق الخالق بسملة تتلوها الروح. بل تلاوة وصلاة تهجد في محراب الذات القدسية وفي نعيم العطر العرفانيّ. وفي هذا التسامي نحو ملكوت الخالق تتبلور الحروف أجنّة رؤى. فتصوغ الشاعرة ريم كينونة الإنسان، لا بحسّ الأنثى التي تقطف وردة أو تسكب دمعة أمام آدمها ، بل باستشراف عوالم نائية حيث أصوات الروح الباطنيّة المكتظّة بالإيمان. تقول:

أقيم فيها وفيها مبتدا سفري

والروح منها شفيف عابق عطر.

وهذه الحالة العرفانية إنّما هي نقطة البداية لرحلة روحي التي تنعم بعابق الأريج:

أوّاه قلبي بدا في شوقه طربا

والشوق وصل إذا ما القلب منفطر

سلام نفسي على نفسي وغبطتها

حين الوميض بكرم النفس يختمر…

كم يضطرب قلبي شوقاً إلى لقيا وجه خالقي وكم تشعر نفسي بالطمأنينة والسلامة وحين يختمر الوميض الربانيّ في كرمة نفسي تبدأ النفس بالبكاء فرحاً وطرباً لهذه الحالة من التبتّل. هي الأنا المتماهية في جسد الرؤيا حيث تحلق الروح بأجنحة ملائكيّة خارج مدارات الإحساس.

وهي لا تني ترسل إلى الحبيب رسائل شوقها وحيناً حيناً وابتهالات حيناً آخر. تقول في قصيدة أخرى:

رسائل الشوق رغم البين قد تصل

بالوحي حيناً وحين الروح تبتهل…

هو نزوع للقفز خارج إطار المحسوسات فتبدو الروح تتقافز نحو هالات النور الربانيّ لتنعم بمطلق النعيم السرمدي اللامحدود بزمان أو مكان. لذا تبدو منتشية حدّ الثمالة لاهثة إلى شرفات الإشراق في محراب القداسة حيث تتوهّج الكلمات سنا فهي صلاة استسقاء لروحها العطشى إلى النور وهي تمشي على صراط العشق الربانيّ فتبيّن طريقة تواصلها مع النور المطلق وذلك بالوحي لحظة الابتهال. بفعالية التوق والرغبة أضاءت ريم قناديل حياتها بأقباس نورانية، في محاولة لاختراق أسداف الضبابيّة التي ترخيها سدول الوجود الماديّ العدميّ القاسي فالروح الشفّافة التي ترتعش قلقاً تجد في التهجّد والانصراف الكلّي إلى البحث عن مفازات الوصول إلى المحجّة النورانيّة صراطاً إلى الراحة.

ومع ذلك، فإنّ حروفها لا تتجاوز النأمة الصوفيّة فرصيدها المعرفيّ لا يمكّنها من الإبحار عميقاً، لذا تكتفي بالترحال عند الشواطئ.

وتعتمد كما شعراء الصوفية الدوالّ الضبابيّة لأنّ تواصل حواسّهم المعتمدة مع القلب لا العقل، فتستخدم دالّ ألمحه . وهذا الدالّ يشي بقُصر فترة الرؤية حيث تترك أثراً مضطرباً في اليقينيّة. هي متيقّنة من رؤية خالقها لكنّ الرؤية بذاتها إنّما هي لمحة سريعة، وما يؤكّد استخدام الحواسّ القلبيّة الرؤيويّة قولها:

ولو سلكت دروب الروح أبصره

بيني وبيني فلا حدّ ولا صوَر…

فكيف للعين الباصرة أن ترى ما بين الإنسان وذاته؟

إذاً، هي بحواسّها القلبيّة تخاطب خالقها بانكشاف تامّ وذلك بحجّة أنّ الحواسّ تدرك الماديّات لا غير وما فوق الماديّات يدرك بحواس الروح. وعندما تطلق مشاعرها من عقالها وتقول أوّاه هي صرخة تنفجر في حالة الفرح والتعجّب وتولّد حميميّات تسترخي في روابي الروح فتغدو المشاعر صريحة ممنوعة من الصرف.

هذا، وقد ارتقت الشاعرة سلّم الخليل في أنغامها بلغة رصينة وعبارات متينة وصوَر لم تخرج عن النمط الكلاسيكيّ المعروف.

أخيراً، بدت الشاعرة كعرّافة تعشّق زجاج الحروف وتخيط قمصان المعاني في وهلة الخشوع، فتتسلّل الطمأنينة إلى أعماق الروح تطهّرها من ترّهات الحياة ودنس الصغائر.

كاتب سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى