مؤتمر إعمار غزة في طبعته الثانية

رامز مصطفى

ثلاثة حروب مدمّرة شنتها «إسرائيل» على قطاع غزة بين عامي 2009 و 2014. وما خلفته من دمار وخراب، ما دفع أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون في زيارته إلى غزة قبل أيام، أن يجهش في البكاء حزناً وألماً لهول الدمار الذي مسح أحياء بكاملها عن خارطة القطاع، ومعها شطب من قيد السجل المدني الفلسطيني عائلات بكاملها، بعدما قضوا شهداء وجرحى بسبب المجازر التي ارتكبتها حكومة نتنياهو بحق الشعب الفلسطيني.

أنجز المجتمع الدولي خلال خمس سنوات، مؤتمرين عُقدا على الأرض المصرية، من أجل إعمار غزة. المؤتمر الأول في آذار 2009 في شرم الشيخ، قرّر فيه المجتمعون تبرّعات وصفها وزير الخارجية المصري آنذاك أحمد أبو الغيط، بأنها فاقت التوقعات 5،2 مليار دولار ، بينما كانت حكومة الدكتور سلام فياض قد طالبت بمبلغ 2.8 مليار دولار . وحتى تاريخه لم تف هذه الدول بما التزمت به. والأسباب لم تعد مجهولة، وخلاصتها أنّ الدول التي تعهّدت بالتبرّعات، لا تعمل كجمعيات خيرية، بل تريد أن تُقرّش تبرّعاتها بأفعال ومبادرات وخطوات سياسية، تفضي إلى حلّ سياسي للقضية الفلسطينية عبر مفاوضات مع الاحتلال، وبالتالي وقف المقاومة على طريق إنهائها. ليتبيّن أنّ جميع التبرّعات، ما هي إلاّ مجرّد وعود، بمعنى أنها «شيك من دون رصيد».

وفي الثاني عشر من الجاري، وبدعوة مصرية نرويجية مشتركة، عقدت 60 دولة ومنظمة وهيئة دولية مؤتمرها الثاني في القاهرة، من أجل إعادة إعمار غزة، بعد عدوان «إسرائيلي» بربري استمرّ 51 يوماً. حضر ممثلو هذه الدول بهمة عالية استرعت اهتماماً واسعاً من قبل الشعب الفلسطيني في غزة، من موقع الضحية، وهو المصاب بخيبة أمل من وعود مؤتمر العام 2009، والذي كشف زيف وعود هذه الدول، وأظهر أنها ليست سوى سراب ووهم.

على المقلب الآخر كان الكيان الصهيوني بقياداته وفي مقدمهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من المتابعين والمهتمّين، الذين لم تتمّ دعوتهم إلى حضور المؤتمر، إلاّ أنّ ملائكتهم كانت حاضرة. أي الولايات المتحدة الأميركية بشخص وزير خارجيتها جون كيري، وطوني بلير ممثل الرباعية الدولية، وبالون الاختبار لدى دولة الكيان الصهيوني. مضافاً إلى ذلك أنها أي «إسرائيل» هي المتحكم بآليات وعمليات إعادة الإعمار، وتفرض سطوتها على المعابر، وهذا ما أكده ليبرمان في تصريحات له قال فيها: «لا يمكن إعمار غزة من دون مشاركة إسرائيل وتعاونها، وفي جميع الأحوال سنحاول أن نكون ايجابيين بكلّ ما يتعلق بالبنى التحتية المدنية والإعمار المدني». وتابع قائلاً: «إنّ العتاد سيمرّ عن طريق حواجزنا، وواضح للجميع أنه من دون تعاون إسرائيلي يستحيل التقدم».

وقد أنهى مؤتمر إعادة إعمار غزة برئاسة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أعماله ببيان ختامي وتبرّعات سخية بلغت 5،4 مليون دولار. وقد اعتبرت حكومة الوفاق الوطني أن المؤتمر حقق نتائج باهرة، فيما السواد الأعظم من الشعب الفلسطيني في غزة قابَل الأمر بكثير من الفتور والحذر.

وفي متابعة الكلمات والتصريحات والاجتماعات التي عقدت بين أعضاء المؤتمر وما رشح منها، يمكننا تسجيل الآتي:

1 ـ ليس بالضرورة أنّ تكون الكلمات التي ألقاها المشاركون في المؤتمر وأمام الحشد الواسع والكثيف لوسائل الإعلام، قد شملت كلّ القضايا المنوي طرحها. ولكن ما دار في كواليس المؤتمر، واللقاءات الجانبية بين أعضاء الوفود أهمّ بكثير مما طُرح تحت قبة المؤتمر. والبازار السياسي على الدوام ساحاته في الغرف المغلقة، وفي أغلب الأحيان قبل عقد المؤتمرات.

2 ـ الكثير من الكلمات أكدت ضرورة تقديم مقاربة جديدة لموضوع غزة، بالمعنى السياسي. لأنّ جهود الإعمار يجب أن تكون جزءاً من تغيّر سياسي أكبر. أي لا بدّ من القيام بخطوات جريئة من قبل كلّ الأطراف الفلسطينية و»الإسرائيلية»، بما يتعلق بعملية التسوية المعطلة بقرار «أميركي ـ إسرائيلي». وهذا ما عبّر عنه وزير التنمية الدولية البريطاني ديسموند عندما أكد أنه «من الممكن تقديم المزيد من الدعم والمساعدات، ولكنها مقرونة بمدى التطوّر السياسي على الأرض». وبدوره طوني بلير وفي كلمته أمام المؤتمر قال: «نحن جميعاً نعرف ما يجب القيام به، وقف الصواريخ والأنفاق وكافة أشكال الترهيب». أما الوزير الأميركي كيري فقال بوضوح وعن اقتناع عميق: «اليوم أقول إنّ الولايات المتحدة تظلّ ملتزمة كلياً وتماماً بالعودة إلى المفاوضات، ليس من أجل المفاوضات، ولكن لأنّ هدف هذا المؤتمر ومستقبل المنطقة، يتطلب ذلك». وأضاف كيري: «لا أعتقد أنّ أيّ شخص في هذه القاعة يريد أن يعود بعد عامين أو أقلّ إلى نفس المائدة للحديث عن إعادة إعمار غزة بسبب التقاعس عن التعامل مع القضايا الأساسية التي تؤدّي إلى تكرار النزاع». وهذا ما قاله أيضاً الرئيس السيسي، الذي أكد في كلمته الافتتاحية «أنّ الوقت قد حان لإنهاء النزاع مع الفلسطينيين، مطالباً بـ «جعل هذه اللحظة نقطة انطلاق حقيقية لتحقيق السلام الذي يضمن الاستقرار والازدهار، ويجعل حلم العيش المشترك، حقيقة». مما يؤكد أنّ الدول النافذة تريد إخضاع الإعمار لعملية طويلة من الابتزاز السياسي، يُمكّن «إسرائيل» من فرض أو تنفيذ اشتراطاتها. بمعنى أننا قد نكون أمام معادلة جديدة «الإعمار مقابل السلاح».

3 ـ عدم التطرق إلى تحميل الجانب «الإسرائيلي» المسؤولية عن تدمير القطاع، بوصفه الجانب المعتدي على الشعب الفلسطيني ومقدّراته على مدار 51 يوماً من العدوان المجرم. واكتفى البيان بالقول: «هناك استحالة إعادة إعمار غزة، إلا بفتح المعابر، والإسراع في الانتعاش الاقتصادي من قبل الحكومة الإسرائيلية، وإزالة القيود المفروضة على الفلسطينيين، وبما يتيح لهم ممارسة التجارة بين غزة والضفة». وفي ذلك سعي جدي من قبل دول القرار، من أجل حرمان الشعب الفلسطيني والفصائل من تحقيق أية إنجازات سياسية تعكس ما تحقق في الميدان من انتصارات عسكرية. والأهمّ حرمان السلطة من الاستفادة من نتائج المؤتمر، إذا ما عقدت عزمها على مقاضاة «إسرائيل» أمام المحاكم الدولية، على جرائمها.

4 ـ ربط مسألة إعادة الإعمار، باستمرار التهدئة المستدامة، وحتى الآن لم تستأنف المفاوضات الغير مباشرة بين الوفد الفلسطيني و»الإسرائيلي» برعاية مصرية من أجل بحث نقاط التهدئة ومتطلباتها. وقد اعتبر بعض المتحدثين في المؤتمر، أنّ الدعم المادي، والاتكال عليه غير مجد أو مفيد، في ظلّ استمرار العنف. لذلك كان التشديد قبيل انعقاد المؤتمر على العودة القوية والفورية للسلطة، ومسك المعابر، وتولي مسؤولية الإعمار بوصفها الجهة المعترف بها دولياً وإقليمياً، والطرف الثاني في «اتفاق أوسلو». وهذا معناه بحسب ما صرّحت به منظمة أوكسفام انترناشيونال «إنّ القسط الأكبر من الأموال التي تعهّدت بها الدول المشاركة في المؤتمر حول إعادة إعمار غزة، سيظلّ في حسابات مصرفية لعقود عدة قبل أن تصل إلى أهل غزة، ما لم ترفع القيود الإسرائيلية المفروضة عليهم». وأضاف تقرير منظمة أوكسفام «انّ المقترحات الحالية لتخفيف القيود قليلاً بدلاً من رفعها، من المحتمل أن تكون قطرة في محيط، مقارنة مع الحجم الهائل من الحاجة بعد 51 يوماً من الدمار غير المسبوق».

وإلى أن يحين موعد إيفاء الدول المانحة بتعهّداتها في ضخّ الأموال التي رُصدت في مؤتمر إعمار قطاع غزة في طبعته الثانية، سيبقى شعبنا الفلسطيني يرزح تحت ضغوط المعاناة والحاجة. والفارق الوحيد فقط بين مرحلتي المؤتمرين بطبعتيه الأولى والثانية، أنّ شعبنا في العام 2009 أمضى أيامه تحت حرّ الصيف. أما اليوم فهو أيضاً سيمضي أيامه في العراء تحت فصل الشتاء القارص. الأمر الذي يتطلب من الفصائل والقوى المؤتمنة، ألاّ تتهاون أو تتنازل عن احتياجات ومتطلبات شعبنا، الذي دفع الفاتورة الأعلى والأغلى في سياق الصراع المفتوح مع الكيان الصهيوني وأطماعه التي لا حدود لها، على حساب حقوق وتطلعات شعبنا وقضيتنا الوطنية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى