السلوك غير النمطي في رواية «حامض حلو»

ضحى عبد الرؤوف المل

بدأت الروائية ماري ويسلي روايتها الصادرة عن «دار الساقي» بالمتناقضات الحسّية، كي تصدم المتلقي بشخصية نموذجية متناقضة في تفكيرها المعيشي، ومتصالحة مع نفسها، منذ اللحظة التي قرّرت فيها الاحتفاظ بمولودها والهروب من بيت جدّها. معتمدة على كشف السلوك غير النمطي في الحياة، من دون أن تصدم المتلقي بالهيكلية الدرامية في رواية ذات بنية اجتماعية تنوء ببيئات مختلفة عاشتها «هيبي» بطلة رواية «حامض حلو» المترجمة من قبل ريم الطويل، وبتكافؤ مع التحولات المكانية والزمانية في الرواية.

والتنوع في سلوكيات موشحة بالفضائل والرذائل وتجميل الأفعال، ومواجهة الحقائق والصدق في إظهار الذات، بتجرد وبمزيج من الجمال والقبح النسبي، أو الاعتماد على النفس بعد حدوث الأخطاء في سن المراهقة، وما رمزية «حامض حلو» ومتناقضاتها المستوحاة من التذوق إلا السهولة والصعوبة في مسارات الحياة، التي نتورط فيها بحماقات تفتح خلايا الوعي، وتضع مدارك الحقائق أمام الإنسان الذي يريد متابعة تفاصيل الوقائع اليومية وفق قناعاته، وتقاسيم الحدث الذي أودى به إلى تفاصيل جعلته محروما من مساندة الأهل، وإن بجبروت المضي في العيش بتفرد وبقدرة على التوغل السيكولوجي في عالم ازدواجي تعيشه «هيبي» الشخصية الرئيسة في الرواية.

عاهرة طاهية أو امرأة تتقن فن العيش المتوازن، من دون التطلع إلى تغيرات قد تؤدي إلى خسارات تفسد مسألة التوازن القائمة على متناقضات الحياة، فالطهو مقابل الأشياء يعني التركيب الكيماوي للعناصر مجتمعة، والجنس هو استمرارية لهذا البقاء الذي يشعرها باستقلاليتها كامرأة، لاستخراج قيمة الشيء الذي نبحث عنه بعد الاضطرابات غير التكيفية، بمفارقات العمر بينها وبين جديها، والالتزام الأسري الشديد والبعيد عن الاستقلالية التي بحثت عنها، لتحتفظ بالجنين هاربة نحو المجهول، وإنما بتشخيص ذاتي للسلوك الراسخ فيها، إذ اعتمدت على حكاية تنمو بالرواية، وبالقدرة على التنقل بين الأمكنة، من دون غموض تجعل منه بنية مغايرة، بل بتوضيح تام للصورة المتخيلة لطباخة تمارس فن العيش بأساليب متعددة، محافظة على نمط تربية ارستقراطي لابنها في مدرسة داخلية، ذات أقساط مرتفعة، وبهذا فهي مارست دور عائلتها تماما، وهذا ما اكتشفته بعد فترة من الزمن جعلها تكتشف العار «البيوريتاني» وهو مصطلح يدل على التزمت واعتبار الحياة قائمة على العمل والتحكم بالنفس، واعتبار المتعة أمرا خطأ وهو غير ضروري، فالرواية تعتني بالشخوص والحبكة والالتزام بمعالجة الحدث، وهو هروب هيبي ليلا، لنشعر بالهواجس والمخاوف على البنت الهاربة من جديها، ونرافقها في ترحالها الازدواجي مستهدفة ماري ويسلي لذة القارئ الفكرية.

تؤكد ماري ويسلي في نهاية روايتها «حامض حلو» على السلوك المتجذر في نفوسنا، ومهما هربنا من تربية الاهل القاسية تبقى راسخة. لأن ما نتعلمه من الأهل في الصغر لا يمحى، بل يرافق معظم الحالات التي تنطوي على الأسس التربوية القويمة، وإن حدثت الأخطاء، فالعصيان والفوضى والهروب والاستنكار هو التصرف الذي قامت به هيبي قبل أن تنسحب من العائلة. لتحافظ على الطفل، وإن لم تكتمل نضجا، لأنها كانت في مرحلة عمرية صغيرة، ومع ذلك هي متصالحة مع ذاتها، رغم حالة القلق التي انتابتها عندما شعرت بأنها ستفقد ابنها بعد سنوات، إضافة إلى أنها حافظت على الحواس، أو حاسة الشم التي ميزت بها والد ابنها الذي لم تكن لتعرفه بعد حملها بطفلها وقرارها الاحتفاظ به.

وكثيرا ما تستدعي الروائح الذاكرة، فالانسحاب الاجتماعي لم يكتمل بل اقتصر على جديها، لأنها استطاعت تكوين صداقات عاشت معها وأحبتها وتوالفت معها، رغم أن « ما يريده المرء وما يحصل عليه مختلف تماما» فالتغيرات الفسيولوجية التي تحدث اجتماعيا تنعكس على السلوك، ومن شأنها توليد حالة من القلق ترافق الإنسان، وتصيبه بمشاكل سلوكية مضافة كتلك التي نتج عنها ممارستها لمهنتين، فتشابك الخيوط مع بعضها بعضا في الرواية حمل من المفاجآت ما جعلها تواجه الكثير من التحديات، وهي مدرسة ابنها الباهظة التكاليف وقدرتها على تأمين الأقساط في ظل اعتمادها على الواقعية الأنثربولوجية والدلالات الرمزية في النقد لجديها، ولنفسها بما قامت به من تربية لابنها.

الوعي الاستقلالي وما يرافقه من صعوبات جسدته الصور المرئية للقرية ولأمكنة تغلغت فيها، لإضفاء حيوية على الخيال الحسي المتعدد بتفاصيله وسماته الرصينة، لنعود إلى المكان دائما وإلى الرائحة التي رافقت الحدث الأقوى في الحياة، وأن استخدمت المفردات والمعاني بقوتها لا أسمح بتلك الكلمة في المنزل إلا أنها انصهرت مع عائلة جديدة مؤلفة من أصدقاء تعيش معهم وتمارس هناك فن الطبخ أو التذوق ليتعلقوا بها كالأم التي افتقدتها. إذ يبدو أنها مارست الدور الازدواجي كتعويض عن جديها بعد أن تركتهما ليلا، لترحل بجنينها نحو فترة زمنية مضت سريعة، من دون أن تشعر بها، لأننا مهما فارقنا الماضي لا بد أننا نتأثر به في ما بعد ونحاول العودة إلى تصحيح الرؤية، لاستخلاص ما استنتجته من مفاهيم خاصة.

مطاردات للخيال عاشها مونغو وروري الشخصية المتناقضة مع مونغو والداعمة له، وبمفارقات مع سيلاس ابنها الذي حافظت عليه وهربت من أجل البقاء عليه من دون أن تفكر بنتائج ما أقدمت عليه على المدى الطويل ، وبهذا انفردت الشخوص تلقائيا بالأحداث، وكأن الحركة الدرامية حافظت على التسلسل الروائي بعافية وجمالية لا يمكن إنكارها من دون الانخراط بعوالم أخرى تؤدي إلى هلاك النفس، بتعابير صادقة ذات خصوصية تستقر في ذهن المتلقي.

إذ تلتحم الأبعاد الاجتماعية والسلوكية مع الشخصيات، فتصلح بعضها بعضا، إن بالصداقات أو بالحب أو بالعلاقات الأسرية التي افقتدوها، وبتصوير دقيق للمشاعر المختلفة التي تنتابها نحو الشخوص والاضطرابات العبثية بجرأة ووضوح، تتخطى بهما الكثير من الخطوط كاشفة عن خبايا المشهد الداخلي بشكل عميق، محققة بذلك قوة في التحليل النفسي الروائي واستقلالية النص المرتكز على قوة الإدراك في تقنيات السرد والحوارات وربط الحالة اللاشعورية بالوعي الفني وقوة الحبكة وحيوية الحدث وقوته. فهل نجحت ماري ويسلي في فصل حامض عن حلو أم استأثرت بالمعنى الحسي في روايتها؟

كاتبة لبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى