الفنان التشكيليّ ومتطلّبات الجمهور… سؤال الفعل والتلقّي

لحسن ملواني

ماذا ينتظر الجمهور المتباين الرؤى والذوق من الفنان التشكيليّ؟ هذا سؤال جوهريّ بالنسبة إلى الفنان، رغم اختلاف وعي الفنان بما يقدّمه من خلال عمله الفنّي.

ومن هنا، نقف أمام اختلافات تنبني عليها عدّة قناعات يجب استيعاب أسبابها. فهناك من يرى أنّ الفنان التشكيلي شخص موهوب، يستطيع أنّ يعرض ما يعتري حياتنا من قضايا مفيدة أو مكدّرة بشكّل ابتكاري، يوقظ فينا إحساسات خامدة، وبذلك يجعلنا أكثر فاعلية وتفاعلاً مع المقدّم في العمل الفنّي الذي يضمنه عبر ما اختمر في داخله وتفاعل معه في لحظةٍ ما. فهو المؤطّر لحالات لها مركز الثقل في المجتمع، سواء كان ذلك عبر الشكل واللون للمعتاد أو المفردات التي لها تقاطعات مع ما يكتنف حياتنا الاجتماعية والنفسية. لكن الفنّ التشكيلي بالتحديد يطرح تساؤلات بصدد أعمال لا تنمّ عن ذوق فنّي نستطيع عبره فهمها وتأويلها. من هنا، يُطرح سؤال آخر: ما الذي جعل من أعمال تتميّز بالواقعية والانطباعية لما هو موجود في الواقع، تعتبر إبداعاً بامتياز بحسب البعض؟ ألا يحدّ من تميّزها نقلها الشكل الموجود وإنّ وجدت فيه تغييرات محدّدة؟ أليس الفنّ الممتاز هو الفنّ الذي لا تحدّه حدود ولا تحتويه سدود؟ وبالمقابل نجد أعمالاً تأخذ الأشكال المعهودة والمعتادة وتركبها تركيبات تمنحها فرادة وتميّزاً.

تكامل الحالات الإبداعية

إنّ الجواب عن الأسئلة السابقة يقتضي منّا أنّ نحكم على نسبية الإبداع من عمل إلى آخر، فكلّ عمل يتضمّن جزءاً من الإبداعية لتصير كلّ الأعمال إبداعية بالتكامل والمغايرة من عمل إلى آخر، ومن اتجاه إلى آخر. فهذه لوحة تقدّم جمالية الألوان في تدرجها واختلاطها، من دون أنّ تحيل إلى شيء ملموس في حياتنا، تجعلنا نتأمل، نتساءل، ونتحاور، ونؤوّل ونناقش الاحتمالات، وفي الأخير نحكم على أنها جمالية، ويكفيها ذلك مقبولية بالمنطق الفنّي.

هذه لوحة تعكس وجه الانسان عاكساً أوجاعه وإرهاقاته اليومية، ليوقظ فينا ذلك حسّ التعاطف والإنسانية إزاء بعضنا، وبذلك تكون اللوحة عامل استنهاض لهِمَمنا وضمائرنا إزاء ما علينا من الواجبات والقضايا الإنسانية.

هذه لوحة تثير فينا الضيق ربما للشكل الذي قدّمت به ملامح عناصرها، فهي إنّ كانت غارقة في التجريد فقد تحمل ألوانها عبر انسياباتها أشكالاً تذكرك بمكان يحمل لحظة خالدة في كيانك.

شخصية العمل الفنّي

فاللوحة باعتبارها إنتاجاً بشرياً ستجد لها من يقبل على وجهها بحبّ، ومن سيواجهها بعداء، ومن سيواجهها بتنكر، ومن سيواجهها بأحكام صارمة وبتساؤلات يراها جوهرية بالنسبة إليه. فكما نتفاعل مع غيرنا ونتفق ونتكاره، باعتبارنا أجساداً مرئية، فإنّ ذلك قد ينطبق على اللوحات الفنّية. من حقّ كل مشاهد للوحة تأويل محتواها كما ينعكس على وجدانه ومشاعره، وليس من حق أحد أنّ يعاتبه أو يؤاخذه في ذلك. ونفسيات الناس تختلف اختلافات لا محدودة، وهي بذلك في استعداد لتقبل معطيات اللوحات بكل اتجاهاتها. ولأن اللوحة إعادة لترتيب معطيات البيئة التي نحيا عليها، فإن اختلافات هذا الترتيب بين فنان وآخر هو الذي يجعل من اللوحة إبداعاً فعلاً، لكون الإبداعية في حقيقتها مقابلة للنمطية والرتابة والتكرار.

تعدّد الرؤى

كثيرون من المبدعين يتركون لوحاتهم مفتوحة بلا عناوين، مقتنعين بتعدد الرؤى، حذرين من تقزيم القامات، والإساءة إلى الجمال بعناوين قاصرة مهما كانت تركيبتها، ذلك أنّ العنوان لن يكون سوى تلخيص لوجهة نظر أحادية، يجب عدم فرضها على المشاهدين، هؤلاء الذين يجب إشعارهم بجدارة القراءة الشخصية لهم مستندين إلى ما يبدو لهم من رؤى، وما يتوصلون إليه بعيداً عن التسلّح بعناوين قد تكون قاصرة أو مضلّلة أو فقيرة الدلالة مقارنة بالعمل الفنّي ذاته. بل إنّ مبدعين آثروا ألّا يوقّعوا لوحاتهم لأن لهم بصمة خاصة بهم. ولأن الألوان والأشكال باختلافاتها ومعانيها وتجريديتها من الثوابت الراسخة في أعماقنا بحضورها المتميز في ذواتنا، فإنّ من شأن اللوحة أنّ توقظ الكامن في نفسية هذا وذاك، كما يمكن أنّ يحدث العكس إذا تعلّق الأمر بلوحات وأعمال مختلفة أخرى.

انطلاقاً ممّا سبق، نقرّ مع من يوافقنا على أنّ قراءة اللوحة ومقاربة موضوعاتها لا تنبنيان ولا تتأسّسان على قواعد صارمة ومحدودة، ما دام كلّ عمل فنّي نستحضر بصدده جانبنا الوجداني قبل أيّ شيء آخر، الأمر الذي لا يمكن للنقد الأكاديمي المعقّد أنّ يلغيه مهما حاول.

كاتب وتشكيليّ مغربيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى