أوراق الاغتراب في مهبّ الريح

آمنة بدر الدين الحلبي

حين رنّقتِ الشمس للمغيب، دعتني إحدى الصديقات لحديث ودّي على شاطئ البحر الأحمر، في كل مرّة أصل في الموعد المحدد، إلاّ ذاك اليوم سرقتني فراشة يتغير لونها كلما مالتِ الشمس رويداً رويداً للمغيب، وتارة ألوان أجنحتها تنعكس حين تغطّ بين الأشجار المرصوفة على جانبي الطريق المؤدي للبحر. هبطتُ من السيارة وعيناي تلاحقان ذاك المنظر المهيب بين اصفرار اللون واحمراره ومدى انعكاس اللون الأزرق في عينيه.

كلما اشرأبّت الفراشة نحو غصن من أغصان الأشجار تهديني ورقة منها، أتلقفها بين يدي، وكأنّها عرائس المغيب تشدو بأنغام الماضي على أنين نواعير الوطن.

تطوّقني تلك الأوراق، وتمدُّ لونها نحوي، حاملة بين أنفاسها عطر الياسمين، وكأنّها تحاكي قلمي لأكتب عليها كلمات حبّ كانت قد هاجرت من سماء حياتي، ورحلت من عنوان روحي، قصصاً تبعث الأمل في النفوس، وتصيغ الفرح.

كان حفيفها يرنُّ في أذني تعيد عليّ قصصَ الأمس، تحدّثني عن الماضي البعيد حين كانت أوراقي ممتدّة على مساحة عمري الطويل، وألواني تشغل القاصي والداني، وحين يغيب لون التضادّ لا بد من حضور الأحمر القرمزي بعيونه الخضراء ليعيد الحياة من جديد.

حضنتها بين يديّ أتأمّل ألوانها المتعدّدة، والمغيب يُرخي رويداً رويداً عليها ظلّه، وكأنني على موعد مع هارموني ألوان على أرصفة شوارع عروس البحر الأحمر، وشفاه الموج تقبّل خدود الشطآن، إلى من أصغي لأعيد ما بدأناه الأمس، حين كنّا معاً على شواطئ الوطن والموج الأزرق في عينيكَ يلفنا من كل حدب وصوب.

حفيفُ أوراق الشجر، يقطع عليّ سلسلة الأمس لأبقى مصغية إليها مع سبق الإصرار، بل وأكتب على صفحاتها بعضاً من حروف المحبة.

تابعت المسير مشياً على الأقدام كي أصل للدعوة الكريمة، لكن أوراق الشجر ما فتئت تلاحقني، وكأنها تحمل معزوفة من الزمن الجميل، وأنا أسارع الخطى لأصل على الموعد المحدّد.

طوّقتني كما سرب حمام لتستأنس بي، وكأنها مرصودة لحديث طويل.

قالت: أنشد لك لحن الحياة.

قلت: كيف يصل أرضَ الوطن.

قالت: تعزفه شفاهُنا فيحمله الهواء وينثره في سماء الوطن.

قلت: أوراق الاغتراب في مهبّ الريح.

قالت: لن يُبدّدنا الريح إنْ اجتمعنا.

قلت: لكن رياح الخماسين هبّت من كلّ حدب وصوب وفرّقت القلوب وأضحى الوطن ينعى أبناءه.

قالت: ستعود النوارس إلى أعشاشها، ويزهر الياسمين على قبور الشهداء.

قلت: لكن الدوري حزين، بعد أن نهبوا عشه وأصبح غريب الدار.

قالت: نمدّ جسور المحبة فتتلاقى القلوب.

قلت: مَن يجمع قلوب الحب بعد أن تطاير ريش المحبة في فضاء الكره اللامحدود.

قالت: نؤلف بين القلوب، وننشد أغنية السلام.

قلت: أيّتها الأوراق الجميلة لقد حلَ الظلام وتأخرت عن موعدي.

قالت: نمشي معاً ليكون الحديث على شفاهنا.

كلما ابتعدتُ اقتربتْ مني، حتى وصلتُ متأخرة فوجدتُ صديقتي تغزل في عينيها بعضاً من عتاب، فأرحتُ قلبها بأنني كتبت رسالة إلى وطني وأنا في طريقي إليها، لكنها أصبحت في مهبّ الريح.

قالت: رسالة حبّ إلى وطنك أعيدي قراءتها على مسامعي.

قلت: علمّتني أوراق الشجر أن نمدّ جسور التواصل بالحب، وأدّبتني بالمحبة.

قالت: هي فلسفة جديدة في قصيدة حب.

قلت: ربّما نجتمع مرة أخرى على المحبة ونمدّ جسور الأخوة على مساحة من التعايش الجميل، بدلاً من أن نحدِّق في بعضنا البعض، وتتحوّل نظراتنا إلى معول فولاذي يحفر أرض أوطاننا، وتدخل الغربان بيننا فتفرّق عالمنا.

قالت: أضحى عالماً مسحوراً تعيث به جنيات الليل.

قلت: أعوام ونيّف مرت من الحب والكراهية، والانتظار والفراق، والصبر الطويل.

قالت: صبرنا سالت منه دماء الكره.

قلت: نرتق ثقوب القلوب ونعيد جرار الياسمين، ونعتّق نبيذ الفرح في الدنان.

قالت: ألم تصبح الرسائل في مهب الريح بعد أن خيّم الليل بردائه.

قلت: رسائل الاغتراب في مهب الريح، لكن الأمل سيشرق من جديد حين نسمع صوت تَفَتُح أكواز الصنوبر بدلاً من صوت البارود، وترتعش قلوب العاشقين على بيادر المحبة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى