الدكتور شبلي إبراهيم شميّل… إنجاز توثيقيّ شافٍ ووافٍ

اعتدال صادق شومان

مع حلول مئوية الدكتور شبلي شميّل، وبمبادرة من بلدية كفرشيما مسقط رأسه، صدر مؤخراً عن «دار نلسن» كتاب يحمل عنوان «الدكتور شبلي إبراهيم شميّل» يتضمّن رسالتين من خارج النصوص المنشورة للطبيب اللبناني واحدة في توصيف «الهواء الأصفر»، وأخرى عن «المعاطس لابن جلا». و«ابن جلا» أحد الأسماء التي كان يستخدمها الدكتور شبلي في بعض كتاباته. لم تنشر الرسالتين سابقاً، لا في مجموعة شبلي شميّل الخاصة ولا في المجموعة المصرية أو حتى في الأبحاث المتميّزة، التي قام بها كلّ من الدكتور أسعد روزق والدكتور جورج هارون على ما يقول الناشر سليمان بختي في مقدّمته.

الكتاب من تحقيق وإعداد الباحث حسن شمص، الذي سبق له أنّ حقّق في أكثر من عنوان تاريخي وأكثر من بحث حول عدد من أعلام الفكر في لبنان والعالم العربي. أبرزها «موسوعة الثورة الجزائرية» في إصدار من خمس أجزاء لمناسبة الذكرى الخمسينية لها.

من المعلوم أنّ شميّل هو من تلك النخبة الذين قدموا مصر خلال القرن التاسع عشر، وأطلق عليهم تسمية «الشوام» إشارةً إلى قدومهم إلى مصر من المنطقة الممتدة ما بين بادية الشام والإسكندرونة ودمشق وحلب والقدس ولبنان.

كانت بلاد الشام تشهد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حركة هجرة متزايدة إلى مصر، على إثر تفشّي سياسة القمع والاستبداد التي مورست بشكلٍ سافر من قبل الولاة العثمانيين، بحقّ المتنوّرين من البلاد الخاضعة لهم. فضلاً عن التضييق المعيشي على السكّان الأمر الذي دفع بأعداد كبيرة من أبناء بلاد الشام إلى اتخاذ قرار الهجرة بحثاً عن بيئة أكثر قدرة على تلبية شروط حياة أفضل. لذلك نشطت حركة الهجرة إلى الخارج، خصوصاً إلى مصر التي كانت تتمتّع بما يشبه الحكم الذاتي الذي نالته عن الدولة العثمانية، وفي ظلّ الإصلاحات التي قادها محمد علي باشا.

ساهم «الشوام» في إثراء الحياة الثقافية والفكرية في مصر، إذ كان غالبيتهم من ذوي التعليم العالي، من بينهم الدكتور شميّل المعروف أنّه كان رائداً في الفكر التحرّري الذي يُحتَفل هذه الأيام بمئويته.

ولد شميّل عام 1850 في بلدة كفرشيما، التي أنجبت رعيلاً بارزاً من النهضويّين الكبّار، منهم من «الشوام» الذين هاجروا إلى مصر وآثروا الحركة الأديبة والصحافية فيها، مثل ناصيف اليازجي وولديه إبراهيم ووردة، وسليم وبشارة تقلا مؤسَّسي «الأهرام».

درس شميّل الطب في الجامعة الأميركية اليوم التي كانت تُعرف آنذاك بالكلّية السورية الإنجيلية. أكمل تعليمه في فرنسا وفيها تبحّر في العلوم الطبيعية والنظريات الفلسفية، كذلك في تاريخ النشوء والارتقاء عن داروين.

ترجم شميّل شروحَ الفيلسوف الألماني لوديفيج بخنر 1824 1899 ، وأضاف إليها مجموعة من المقالات العلمية، والتي جمعها في كتاب بعنوان «فلسفة النشوء والارتقاء» ومجموعة «أبحاث عن الهوية والمياه والبلدان» لأبقراط الطبيب. وكتابه «الحقيقة» الذي فيه ردود على الحملة التي شنّت ضدّه على إثر تبنّيه «نظرية دراوين» في النشوء والارتقاء. كما له أيضاً كتاب «الأرجوزة في الطبّ»، ثم أصدر مع الدكتور خليل سعاده وبشارة زلزل مجلة «الشفاء» التي تعنى بالثقافة الطبيّة، وعشرات المقالات الفكرية والسياسية، منها: «سورية ومستقبلها»، «شكوى وآمال»، «خاتمة الخطاب»، «شرح أرجوزة ابن سينا»، «اختلاف الحيوان والإنسان بالنظر إلى الإقليم والغذاء والتربية»، وغيرها…

أصيب شميّل بالربو، وتوفّى في القاهرة عام 1917 بعدما جمع معظم أعماله في مجلّدين.

غير أنّ شمص اختار أن ينشر في الكتاب، الرسالتين المذكورتين، كونهما لم تشملهما الأعمال الكاملة. الرسالة الأولى طبّية طبعت في مطبعة جريدة «مصر المحروسة» عام 1890، وفيها شرح وافٍ عن مرض «الهواء الأصفر» من أسباب وأعراض وعلاج وكيفية الوقاية منه. أمّا الثانية فهي «رسالة المعاطس لابن جلا» التي طبعت عام 1914، وهي صدى رسالة الغفران للمعرّي وضع فيها فلسفته في الإيمان والإلحاد ونكران الأساطير الغيبية.

في نسق كامل وتوثيق وافر يعطي صورة واضحة إلى صبر الباحث وجديّته، إذ يستعرض شمص بشكلٍ شامل ومبوّب ودقيق، مذيّلاً بكثير من الشواهد والمصادر خصّها في الحاشية من غير إطالة أو أطناب، معرّفاً بكافّة الأدباء والمفكّرين الذين عرفهم الدكتور شميّل وتواصل أو تناظر معهم أو تردّدوا إلى مجلسه وشاركوه أحاديثه واستمعوا إلى آرائه، أمثال جمال الدين الأفغاني وفرح أنطون، إلى جانب دوريّات مثل مجلات «فتاة الشرق»، «الزهور»، «المقتطف»، «الهلال» و«المقطم» وغيرها، عدا عن توثيق كلّ ما صدر من ردود أو مناقشة أفكاره ومنها كتاب «طلائع يقظة الأمة العربية»، و«تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر».

يخلص الكتاب في المحصّلة إلى دراسة إحصائية تعرِّف بغالبية مدوّنات ومصنّفات شميّل، مع تقديم معلومات أساسية حول كلّ ما له علاقة بهذه الشخصية المتعدّدة المكانة، الطبيب، العالِم والفيلسوف، الأديب والمفكر. وكذا بالبحوث المتعلّقة به، ورصد توثيقيّ مبرم. بهذا الاعتبار يكون حسن شمص قد حقّق عملاً توثيقياً شافياً ووافياً، لمصلحة الارتقاء في الشأن الثقافي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى