والحبر إن الشعر لفي قهر… «هذا حدسي ولكن»!

طلال مرتضى

لعلّ قارئي في هذه المرّة سيقف منتصف السطر مثل فارزة تفصل بين معنيَين لا يمتّان إلى بعضهما بأيّ صلة. مستهجناً أو مندّداً حين يتلمّس منذ فواتح الكلام عروجي إلى مفاز كتابة غير الذي اعتاده قبلاً. وهذا كلّه بصيغة السؤال: من عيّنكَ حارساً على الكتابة أو جعل منكَ عابر حبر من دون وكالة؟

فيما أدلي بصراحة، أنني أمام جمهور القراءة والكتابة أتخفّف من تلك التهمة التي ألصقتُها بي عن سابق إصرار. وهذا ما جرّني نحو الاعتراف بأن لا سلطة لأحد على أحد بأن يمنع عنه حرّية الكتابة أو التعبير. فالكتابة مَلَكة ربانية وهبت كجين فاعل لدى الإنسان. وإيماناً بهذا أقرّ بأنها ـ أي الكتابة ـ تشبه العمل لدى الإنسان. فهي تأتي مثله تماماً على شكل درجات، ضعيفة، متوسّطة، وممتازة إلى أن تصقل لتكون إبداعاً فاعلاً.

ما جرّني إلى هذا المقال، ليست غيرتي على الحبر أو الكتابة أو اللغة، بل هو استغرابي عملية استسهال الكتابة لتخرج من محيط إلى محيط أعلى من دون أن تحقّق أدنى شروط عملية الانتقال هذه بكلّ حواملها. ليخرج الأمر إلى طور أوسع والذي أشي بأنه السدرة العليا ـ أي الطباعة ـ تحت مسمّى الشعر أو غيره من الفنون الكتابية.

حين دلفت منجز مارييت حدّاد «هذا حدسي ولكن»، والذي صدر مؤخّراً عن «دار النهضة العربية» البيروتية، وجدته موقّعاً في بطاقة الديوان تحت مسمّى «شعر». وهو ما لفت انتباهي كي أعود إلى إصدارات عدّة وسالفة للدار ذاتها لأجد أنها ـ أي تلك الإصدارات ـ قد وُقّعت جميعها بكلمة «شعر». والواقع يقول غير هذا، فهناك نصوص، وهناك ومضات، وهناك خواطر، وهناك شعر بمعنى الشعر. وهذا ما جرّني نحو السؤال: ألا تتدخّل الدار لتحديد المنجز وذلك من باب حفظ اسمها العريق؟ أم أن الحكاية هي «ادخلوا مصر فأنتم آمنون؟».

توقفّت طويلاً أوّل سطر الكلام في محاولة لإخراج أصابعي الآثمة من خرسها، لتفضي للملأ بقسمها: والحبر إنّ الشعر لفي قهر.

على مد خمس وتسعين صفحة قرائية، سيجد القارئ نفسه مضطرّاً لمتابعة القراءة من صفحة رقم 1 لغاية الصفحة رقم 95 من دون توقف، وذلك يعود إلى سبب وجيه ورئيس، ألا وهو أن الكاتبة لم يتسنّ لها وضع عتبات داخلية للنصوص. أي عناوين، كمحطات للتوقف أو الاستراحة. وهنا أقول إنّ القارئ اليوم مزاجيّ إلى درجة النزق. وكي أتوقف عند حدّ الكلام أسأل: أيّ من القرّاء مستعدّ الآن لعبور 95 صفحة من دون توقف؟

والجواب بطبيعة الحال ليس قطعيّاً، فأنا قد عبرتها من دون توقف، وروحي كانت تلهج نحو الوصل إلى ما يروي ظمأها، لكنها الخيبة القرائية. وكي لا أطلق أحكام وأسقط مفاتيح نقدية ما أنزل الله بها من بيان، أترك الكرة هذه المرّة في مرمى القارئ كي يسمّي الأشياء بأسمائها بتخفّف، كون المنجز لم يعد ملك كاتبته بعدما صار تحت شمس الطباعة.

تحت عتبة «شعر» قالت الكاتبة:

زمن كثر فيه التلّوث

وأصبحنا نهوي في العدم

دمنا أنقياء من فيلم رخيص مصوّر

لا نُشترى ولا نُباع

ولا مكان بالمزاد لنا

أغربوا يا وحوش الشاشة بسلام

ودعونا نعِشْ حياة السلام.

والسؤال هنا أتركه: «لماذا لا تتركون القارئ يحيا بسلام؟

وفيما ذهبتُ لتبيان ما اقتطعتهُ من كلام تالٍ، ينطوي تحت تسمية «ردح»، وهنا كي لا تذهب المدارك بعيداً حول كلمة ردح، وهي تعني في الحالة الكتابية، ركض الكاتب نحو قافية تكون قفلة لكلّ شطر من شطور الكلام، بعيداً عن حكاية الوزن التي لا يعرف من تفاعيلها الكثيرون. والردح يأتي هنا كأضعف الإيمان تحقيق جرس موسيقيّ يترنّم به القارئ وكثيراً ما ينكسر ريتمه أثناء النشيد كما في:

عيناكَ كانتا بحري

شفتاكَ أصبحتا مسكني

وَجْهُكَ بات عالمي

عُشقي لك كان ملاذي

صوتُك هو قوّتي

بنيتُ لك سوراً من هيام

حصَّنته بريش نعام

أسدَلْتُ بعدَك الستارة على كل غلام

أقفلتُ البابَ بإحكام

فأحكمتَ علي الخروج بالإعدام.

لعلّ الكاتبة كانت تدرك بالسليقة بأنّ حُكماً قاسياً لن يروق لها وللكثيرين من روّاد الكلام، كتبت بتجرّد عبر قرار محكمة الحياة قائلة:

حكمت المحكمة

حُكمٌ صادرٌ عن محكمةِ عدلِ الحياة

مُوَقِّعٌ من الأموات

الأحياء بحقِّ الأحياء الأموات منهم

هَرْطقة

طَرْيَقَة

محسوبيّات، غوغائيات، عشوائيات

صفّ أول، ثانٍ

عقولٌ منتهيةُ الصلاحية

لعلّ ما مسّني في نهاية المطاف، هو ما تركته من عتب على الزمن الذي صار مثل النقد يكيل بألف مكيال ومكيال أمام سلطة القول ومقام الحبر السامي، لتكتب ناعية:

زمنٌ

رَخُصَ فيه الإنسان

وبَطُلَ فيه الحقّ

والحقُّ أصبحَ باطِلا

والمثقّف جاهلا

والجاهلُ مثقفا

وصاحبُ الثروات معلّماً وباشا وبَيْكا

وصاحب الكتابات معلِّمَ شاورما وكيْك!

بعد مقارعة 95 صفحة من العظات، باتت الكاتبة مطالَبة بأن تقدّم إلى جمهورها، وبعيداً عن «البيكوية» أو «الكيكوية»، بأن تؤشّر أو تضع بين قوسين صورة شعرية واحدة أو إسقاطاً أو استعارة أو ما يقارب التناصّ اليتيم، من دون الدخول إلى عوالم الدوالّ أو الانزياحات الكتابية!

شاعر وناقد سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى