غزو عفرين ليس الحلّ للقلق التركي

د. وفيق إبراهيم

تعرف الدولة التركية أنّ سيطرتها المرتقبة على منطقة عفرين في غرب سورية ليست مؤشراً كافياً لقدرتها على احتلال مناطق شرق الفرات، حيث توجد القوة الكردية الفعلية.

وللوصول إليها يتوجّب على الجيش التركي عبور مناطق نفوذ روسية وإيرانية، متشابكة مع قوات من الجيش السوري وحزب الله، وهؤلاء غضّ بعضهم الطرف عن مشروع الاجتياح التركي لعفرين، آملاً أن يتسبّب بتعميق الخلاف الأميركي التركي من جهة، وعقاباً للكرد الذين رفضوا من جهةٍ ثانية تسليم عفرين للدولة السوريّة في إطار حلّ كانت تعمل عليه موسكو مع أنقرة. لكن لا مصلحة لهم الآن بفتح طرق عبور كي يعبر الجيش التركي نهر الفرات إلى المناطق الشرقية.

أمّا الجيش السوري، فمنهمك في تحرير تدريجي ومتصل لمناطق في أرياف حلب وإدلب وحماة، معتبراً أنّ كلّ منطقة سوريّة جزء من سيادته مهما كانت جنسية المحتلّ، ولن يتأخّر في الوصول إليها عندما تكتمل الظروف الملائمة.

لجهة الأميركيين، فإنّهم يعملون بدأب شديد على حماية ورقة الكرد شرق الفرات من حدود سورية مع العراق إلى حدودها مع تركيا، وهي من الأوراق الأخيرة التي يمتلكونها، وذلك بعد تأكّدهم من أنّ دخول «إسرائيل» على خطّ العدوان الواسع في سورية يؤدّي إلى تحشيد العالمين العربي والإسلامي ضدّها وفي وجه مَن يؤيّدها ويحرّضها من الأميركيين والخليجيين.

كما يمتنع الأميركيون عن فكرة تدخّل عسكري واسع، لما تسبّبه من رفض أميركي شعبي وإنفاقات كبيرة في أجواء داخلية لا تعتبر ترامب رئيساً ناجحاً. وهذا يؤكّد على مدى أهمية الكرد في الاستراتيجية الأميركية في سورية والعراق، ولاحقاً في تركيا وإيران، حيث هناك انتشار كرديّ متّصل، تأمل واشنطن في استثماره على مستوى ضرب الاستقرار في هذه الدول في مراحل متلاحقة.

ضمن هذا الإطار، تنبثق تساؤلات عن الفائدة من الغزو التركي لعفرين… هل هو فعلاً لضرب المشروع الكردي؟

فإذا كان كذلك، فالمشروع الكردي الفعلي والأكبر هو في المناطق الشرقية، حيث ينتشر سبعون في المئة من الكرد يحظون بحماية الأميركيين سياسياً وعسكرياً. أمّا عفرين، فتضمّ أكراداً، لكنّهم ليسوا متصلين بإخوانهم في المناطق الأخرى. هذا بالإضافة إلى أنّها منقطعة عن الشرق بـ»كونتوار» سوري يحتلّه الجيش التركي بين مدن أعزاز والباب وجرابلس وقوّات روسيّة وسوريّة وإيرانية وأخرى من حزب الله لناحية الجنوب الشرقي، وتجاور إدلب من الجنوب الغربي. الأمر الذي يؤكّد عدم صلاحيتها لأن تكون رأس حربة تركية للقضاء على المشروع الكردي.

ماذا تريد أنقرة إذاً من عفرين؟

تضرب على وتر مسألتين: إلغاء أيّ احتمال افتراضي للوصل بين شرق وغرب كرديين نتيجةً لتطورات أميركية محتملة غير مرئيّة حتى الآن، فإلغاء عفرين «كردياً» يحصر التعامل مع الأكراد «المتأمركين» في إطار شرق النهر فقط، ويضبط إيقاع الشطط الأميركي المحصور ضمن الورقة الكردية لسقوط خيارات واشنطن الأخرى في سورية والعراق داعش والإرهاب والفتنة السنّية الشيعية .

تبقى المسألة الثانية التي تسعى إليها أنقرة من خلال احتلال عفرين، وهي احتلال مساحة من الميدان السوري حيث تندلع أكبر لعبة أمم منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك للمشاركة في مفاوضات الحلول النهائية في بلاد الشام والرافدين، ولكلّ حصّته حسب المساحة التي يشغلها، كما يتوهّم أردوغان وجماعته. ولا شكّ في أنّ الروس ملمّون بهذه الأبعاد كلها، لكنّهم يعرفون أيضاً أن تفاقم الخلاف الأميركي التركي قد يؤدّي إلى نجاح مؤتمر سوتشي أواخر الشهر الحالي، وعندها لن تبقى عفرين تركية.

الأميركيون من جهتهم أدركوا فداحة الأخطاء التي اقترفوها، فتعاملوا مع اجتياح عفرين بـ «صبر»، داعين الأتراك إلى «التروّي» في موقف يكشف عن مدى الاستهزاء الأميركي بحياة الكرد ومصالحهم ومناطقهم. وكان يفترض بأركان «قسد» ووحدات الحماية أن يدركوا من تجربة عفرين أنّهم ليسوا أكثر من ورقة بأيدي الأميركيين، قابلة للتلف بعد انتهاء صلاحياتها «التآمرية». لكنّهم لم يعترضوا، لأنّهم يتأمّلون بدعم أميركي أكبر لإقليمهم شرق النهر، لا سيّما أنّ الأميركيين أعانوهم على احتلال مناطق عربية كبيرة وكميات ضخمة من آبار نفط وغاز بوسعها تغطية احتياجاتهم المادية، لكنّهم لم يسألوا أنفسهم عن طرق عبور كميات النفط والغاز، في ظلّ الإقفال العراقي والسوري والتركي المرتقب بحراً وبرّاً… أتُراهم يريدون تصديره جواً؟

هناك مَن يتكلّم عن قبول أميركي بكانتون كبير للأتراك في سورية على طول الحدود المشتركة من عفرين إلى الحدود الشرقية مع العراق، وبعمق 30 كيلومتراً… على أن يتمّ تسليمه ظاهراً للجيش الحرّ، ومعه قسم من النازحين السوريين في تركيا، مقابل تأييد لإقليم كردي من حدود «كانتونها السوري» وحتى الحدود السوريّة العراقية، ما يؤدّي إلى تفتيت سورية إلى ثلاثة أقاليم: الدولة، وتنتشر من حدود عفرين إلى نهر الفرات وحتى الحدود العراقية الأردنية، وأطراف الجولان السوري المحتل، بما يشكّل أكثر من 135 ألف كيلو متر مربع من مساحة البل اد. أمّا الإقليم الثاني، فهو المشمول بالحماية التركية إلى جانب الإقليم الكردي في الشرق المختبئ في العباءة الأميركية. فهل هذا ممكن؟ على الرغم من أنّه مستحيل نتيجة للرفض الكبير من جانب الدولة السورية، إلا أنّ هذا لا يمنع أنّ هناك محاولة أميركية لاستيعاب «التمرّد التركي» بنظام الأقاليم الثلاثة، الذي يؤدّي عملياً إلى إعادة إحياء مشاريع التفتيت الأميركية في سورية والعراق.

كما أنّ الموقف الروسي لن يكون أقلّ اعتراضاً، لأنّ «سورية المفيدة» بالنسبة لموسكو هي التي تؤمّن لها طرقاً مستقرة ومفتوحة نحو العالم العربي في العراق والجزيرة ومصر والسودان وشمال أفريقيا. وهذا يتطلّب وجود دولة سوريّة محوريّة وقويّة، تلعب دور القطب في النظام العربي العام كدأبها، وهذا لا يكون مطلقاً بوجود أقاليم ثلاثة متناقضة ومتعادية تستنزف دور بلاد الشام الإقليمي. أمّا لجهة الإيرانيين، فهم لا يقبلون حتى بمجرّد الاستماع إلى هذه الاقتراحات، لأنّها تؤدّي إلى تدمير حليف رئيسي لطهران في «الشرق الأوسط» يُعادي مشروع الهيمنة الأميركي و«إسرائيل».

كما أنّ حزب الله الذي أصبح يؤدّي دوراً إقليمياً متميّزاً، مستعدّ للوقوف إلى جانب الدولة السوريّة في الاحتمالات كلها وأفضلها بالنسبة إليه هي المجابهة الشاملة مع كلّ أنواع المستعمرين الأميركيين والأتراك والصهاينة.

ألا يجب أن تدفع هذه المواقف أنقرة إلى البحث عن الحلول الحقيقية التي تمنع عنها الخطر الكردي؟

ويعرف الأتراك أنّ السياسة الأميركية غير مأمونة الجانب، والإثبات هو فتح الله غولن الذي حاول تنفيذ انقلاب عليها بتخطيط أميركي، كما يقول أردوغان.

الحلّ المنطقي الذي يؤمّن استقرار المنطقة ضمن سيادتها يتأمّن بالدولة الوطنية التي حاولت تركيا تدميرها بالاشتراك مع واشنطن وبواسطة المنظمات الإرهابية.

فبهذه الوسيلة، تحتوي الدولة الوطنية مكوّناتها كلها بعدل واندماج، وتمنع خطورة أدوار بعض الفئات على أمن المنطقة.

والفرصة لا تزال سارية حتى الآن، إنّما المطلوب وقف التآمر التركي الأميركي الخليجي الذي يعمل حتى الآن على تفجير الدول الوطنية.

فلماذا تصرّ أنقرة على دعم الإرهاب الذي لن يؤدّي إلا إلى إقفال أبواب سورية والعرب في وجهها، وبالتالي كلّ أبواب المشرق؟

هذا برسم حكّام أنقرة، فهل يستفيدون من التجربة؟!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى