استهداف فرنسي شرس لحزب الله؟

د. وفيق إبراهيم

هل يمكن إضافة الفرنسيين إلى لائحة الذين يصوّبون مباشرة على حزب الله وليس من خلال حلفائهم الأميركيين، كما درجت العادة؟

كانت باريس تكتفي بـ»التبني الإعلامي» للسياسات الأميركية السعودية، وتكمن داخل عباءة واشنطن منذ مرحلة رئيسها السابق جاك شيراك، مع حرصها على إبقاء خطوط اتصال لـ»وقت الضيق» مع الأطراف المصوَّب عليها.

هذه المرّة، فرنسا تبدَّل أمرُها. فمع وصول ماكرون الشاب إلى سدة الرئاسة بدأت البحث عن دورها المفقود تاريخياً تحت هدير القطار الأميركي بلباقة الفرنسيين المصرّين على إخفاء تناقضاتهم مع واشنطن وإظهارها كتعارضات شكلية، ومنها الخلاف على الاتفاق النووي مع إيران الذي انتصرت فيه وجهة النظر الفرنسية الألمانية.

يصادف، ضمن هذه المعطيات، أن قلب العالم الاستهلاكي هو الشرق الأوسط الذي تؤدي فيه السياسة الأميركية دور القطب الأول الذي لا يسمح لأحد بالتسلل إليه إلا بالقوة، كحال الروس.

لذلك لا يستطيع ماكرون الاستيطان في الشرق الأوسط حيث النفط والغاز والاستهلاك إلا بمنطق الحاجة الأميركية إلى دور فرنسي إضافي يحتاجه الأميركيون لمواصلة هيمنتهم، وإلا لماذا تتيح واشنطن لفرنسا العودة إلى بلاد المشرق، حيث الشمس والاقتصاد والدول الضعيفة؟

هنا حدثت المصادفة الثانية العجائبية! وصل صديق حزب الله وفرنسا إلى رئاسة الجمهورية في لبنان. وهو العماد ميشال عون الذي ظلّ منفياً في ضيافتها نحو عقد ونصف العقد. ولا شك في أن قسماً وازناً من قيادات تياره الوطني ارتبط بالدوائر الفرنسية في العمق، وذلك على خلفية الاستضافة والحنين إلى «الأم الحنون» فرنسا.

لم ينسَ القسم الأكبر من الأسلاف التاريخيين للتيار الحر أن نابوليون الثالث أرسل إلى «الأمة المارونية»، كما أسماها في حينه القرن الـ19 رسالة تحية وإعجاب من على متن طرّاده الحربي الذي كان يعبُر قبالة شواطئ جبل لبنان.

لذلك أدّى تيار عون منذ عودته إلى لبنان دورين: الأول هو التحالف مع حزب الله، والثاني هو المحافظة على علاقة عميقة مع الفرنسيين، إنما غير مرئية. وبعد وصول عون إلى الرئاسة تراجعت العلاقة مع حزب الله لتحتل الموقع الثاني، مقابل صعود العلاقة مع الفرنسيين.

هذه العلاقة التي تعني علاقة سياسية والتزاماً باهتمامات فرنسا.. لكنها تتطلب انتقالاً سلساً من مرحلة «السيد حسن» إلى مرحلة «السيد ماكرون». وهذا له تبعاته على مستوى السلطة وتقسيماتها، ولا يمكن إنجازه من دون صدىً وتمظهر على شكل اضطرابات هدأت، لكنها قابلة للعودة في كل حين.

إن الانتقال إلى المرحلة الفرنسية يعني في العمق حماية فرنسا لعهد الرئيس عون، مقابل التزام هذا العهد بوجهة فرنسا الإقليمية. هذه الوجهة التي تستظل بالأميركيين لانتزاع أدوار في الجزء العربي من الخليج، حيث السعودية والإمارات، لذلك تتطلب هذه النقلة، الاستفادة من أهميات لبنان المتعدّدة بجوار سورية وفلسطين المحتلة. لكن هذا الأمر ليس كافياً، لأن لبنان أيضاً هو عرين أهم تنظيم يؤدي دوراً إقليمياً معادياً للأميركيين و»الإسرائيليين». فتبدو عملية ضرب تحالفات حزب الله في لبنان، خدمة للطرف الأميركي السعودي «الإسرائيلي»، وعرقلة لانطلاقته نحو ضرب الإرهاب وبؤره.

فهل هي مصادفة تصريح وزير الدفاع «الإسرائيلي» أفيغدور ليبرمان بأن البلوك النفطي 9 في جنوب لبنان هو لـ»إسرائيل»، مع وضع اميركا رجال أعمال ومؤسسات على لائحة المتهمين بالتعاون مع حزب الله، والانتقاد الفرنسي – الفرنسي البريطاني لأدوار الحزب في الإقليم؟

هل هي مصادفة، أن يعتبر وزير الخارجية جبران باسيل بعض مواقف الحزب الداخلية تعرقل إعادة بناء الدولة؟

وليس من قبيل الصدف، محاولات تركيب تحالفات لبنانية بين التيار وحزب المستقبل السعودي وحزب القوات اللبنانية الذي يترأسه سمير جعجع المعروف بتاريخه غير العربي والمعادي للبنان.

بيد أن الوزير باسيل لا يُخفي نيات هذا الاتجاه الفرنسي في التيار الوطني مقابل تيارات أخرى في حزبه تعلن تمسكها بالتحالف مع حزب الله.

وهذا لا يحجب أبداً إصرار الوزير باسيل على بناء تحالفات داخلية وعربية وإقليمية تتماهى مع السياسة الفرنسية بشكل كامل، أي بدءاً من حزب المستقبل اللبناني إلى السعودية وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، مع بناء أساليب جديدة من شأنها استنباط عراقيل قانونية ودستورية تمنع الحزب من أداء أدوار إقليمية.. وربما لبنانية في أوقات لاحقة.

وهذا لا يتمّ إلا بالسيطرة على المجلس النيابي، كما فعل المرحوم رفيق الحريري في 1992 الذي بسيطرته على الانتخابات النيابية سيطر على مجلس النواب ومجلس الوزراء، وبالتالي على رئاسة الجمهورية والبلاد بأسرها.

ولأن الفرنسيين لا يمتلكون الآن وضوحاً في الرؤيا حول هوية المنتصر في المنطقة، فتراهم يبنون مع السعودية تارة ومع إيران تارة أخرى.. يهاجمون روسيا في مواضع ويمتدحونها في جهات ثانية، وكذلك الأمر مع الصين.. هم حائرون.

الفرنسيون يُصرّون على العودة إلى الأداء الدولي لتحسين اقتصادهم، لكنهم يخشون من خطأ في التحليل الاستراتيجي. فيبدو اتحادهم الأوروبي في وضعية المتأهب الباحث عن موقع، لكنه يخشى ردة فعل الأميركيين، فيعاود الارتماء في أحضانهم محاولاً ترقب انهيارهم ليشارك في «الإرث» الدولي.

وهذا حال حليفهم اللبناني التيار الوطني الذي يبني استراتيجياً مع المستقبل السعودي، معلناً في الوقت نفسه استمرار تحالفه مع حزب الله حليف سورية وإيران، محاولاً تمرير مرحلة الانتخابات النيابية وفي جعبته أكبر كمية ممكنة من المقاعد المسيحية التي يستطيع بواسطتها أن ينتج جبران باسيل رئيساً مقبلاً للجمهورية متحالفاً مع القوى اللبنانية القريبة من السعودية.

وهذا يجعل من عودة فرنسا إلى الملعب الدولي انطلاقاً من المشرق العربي مسألة طبيعية، لأنها الوحيدة التي تساهم في إرباك حزب الله في مركز انطلاقته في لبنان.

أما لجهة بعض أجنحة التيار الوطني القريبة من الفرنسيين، فإنها تستطيع عبر هذه الطريقة السيطرة على لبنان عبر إعادة الإمساك بالحكم فيه بطريق موازنات القوى الجديدة، وربما عبر تعديلات دستورية ممكنة.

وتستند إلى الراعي الفرنسي والشقيق السعودي فتمسك بالضمانتين الدولية والاقتصادية.

لكن هذا التحليل يلقى اعتراضاً عند فئات وازنة وواسعة في التيار الوطني، حيث تقول إن عودة روسيا الصاعقة وانتصار الحلف الذي ينتمي إليه حزب الله وإيران في سورية والعراق واليمن، وتمكُّن النظام السوري من السيطرة على أكثر من 120 الف كلم مربع من مساحة بلاده، لهي مؤشرات كافية تمنع المغامرة بتبني مواقف معادية للحزب، قد تؤدي إلى خسارة ما كسبه التيار في مرحلة تحالفه مع حزب الله. هذا التحالف الذي أنتج ميشال عون رئيساً للجمهورية.

وتتردّد معلومات عن أن الفرنسيين أنفسهم نصحوا التيار بالوقوف بين فريقي الصراع الداخلي والإقليمي حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتتوضح صورة المنتصر بما يؤدي إلى محافظة العونيين على صداقة مع «المستقبل» وحزب الله في آن معاً.

وإذا كان هذا الأمر يرضي حزب المستقبل، فإنه يزعج حلفاء الحزب الذين اكتشفوا لعبة باسيل، ومنهم رئيس المجلس النيابي الذي لا يزال منذ وصول عون إلى الرئاسة يؤكد أن التيار الوطني عقد تحالفاً سرياً مع جماعات السعودية وبنى على هذه المعلومات ما يعرقلها ويكشفها تدريجياً حتى وصلت الأمور لخروج احتجاجات كبيرة على تصريحات داخلية لباسيل، تبين من خلالها مدى شراسة مشروعه في وجه الحزب وتحالفاته.

ما يمكن استخلاصه، يؤكد ضرورة المراهنة على لقاء الرئيسين عون وبري المرتقب غداً، لما قد يحتويه من إمكانات تصحيح الموقف على الأسس التالية: سلاح حزب الله شرعي في جنوب لبنان والإقليم في محاربة الإرهاب والدفاع عن البلاد الثاني عدم محاولة احتكار الحكم فردياً أو ثنائياً. وهذا يتطلب مشاركة الفئات الأساسية في المراسيم والقوانين والعمل على إلغاء النظام الطائفي لمصلحة نظام مدني يمثل فعلاً اللبنانيين ويؤدي إلى تعميق اندماجهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى