سورية تعاود إنتاج الوعي العربي

د. وفيق إبراهيم

إسقاط طائرة «إسرائيلية» بصواريخ سورية قديمة، يرقى عمر صناعتها إلى خمسة عقود، ليس عملاً عسكرياً محدوداً في الزمان والمكان والنتائج.

فهذا الإنجاز يقطع في «الزمان» مع تاريخ 1979 الذي أرّخ لذهاب الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى «إسرائيل» مستسلماً وموقعاً صلح المكسورين المتآمرين، ومخرجاً مصر من الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» ما أدى تلقائياً إلى انهيار النظام العربي العام.

وإذا كان «مكان» إطلاق الصاروخ هو سورية بأوامر من قيادتها السياسية والعسكرية، فهو يعبَّر أيضاً عن رغبات فلسطينية ولبنانية وعراقية وأخرى بأن يكون لديها قدرات مماثلة لإرسال مئات الصواريخ على أهداف «إسرائيلية»، وربما أميركية وسعودية.

ولأن هذا الصاروخ هو الأول من نوعه يُردي طائرة «إسرائيلية» منذ أكثر من أربعة عقود، وسط انهيار عربي عام، فلا شك في أن تداعياته تذهب نحو مناخات عربية تتلهّف لأعمال بطولية مماثلة توقف الانهيار العام.

بداية يمكن الإشارة إلى أن الجيش السوري كان بوسعه إطلاق صواريخ على أهداف «إسرائيلية» في الجو والبر في أي وقت.. لكنه قسّم الجبهات المفتوحة عليه بالتدريج على قاعدة الأكثر خطورة إلى الخطرة.. فحارب على مساحة سورية التي تزيد عن 180 ألف كيلومتر مربع منظمات الإرهاب بكامل تنوّعاتها والجيوش التركية والأردنية والأميركية والإمدادات السعودية الخليجية والأوروبية.. لم يبقَ أحد وإلا تآمر على سورية عبر مهاجمة جيشها الوطني.

هذا المشهد اختلف عن السابق.. بدليل أن جيش سورية نجح في تحرير نحو ثلثي أراضي بلاده منتشراً على حدوده مع لبنان والأردن والعراق، منهياً جبروت الإرهاب وداعميه الأميركيين، ومقلصاً الأدوار التركية والأردنية والقطرية والسعودية.. متحالفاً مع حزب الله والروس والإيرانيين. وهي معادلة نجحت في منع حرية الحركة «الإسرائيلية» في أجواء سورية إلى حدود كبيرة، والدليل أن القصف «الإسرائيلي» على أهداف فيها، إنما كان يتمّ من طريقين الجولان السوري المحتل أو من أجواء لبنان صاحب نظريات «النأي بالنفس» حتى عن اعتداءات العدو «الإسرائيلي». هذه المعطيات، هي وليدة سياسات أميركية ـ سعودية بدأت منذ التسعينيات بتنفيذ مخطط لجذب العرب نحو تصفية القضية الفلسطينية وتفتيت المنطقة وتأسيس حلف معادٍ لإيران وروسيا والصين.

لقد تطلّب هذا المخطط إلغاء نتائج حربين كاملتين انتصر فيهما حزب الله على «إسرائيل» في 2000 و2006 وأصبح عبرهما نموذجاً للانتصار العربي على الحلف الأميركي ـ «الإسرائيلي»، ومعهما الشباب العربي والعالم الإسلامي.

لذلك اقتحمت الفتنة السنية ـ الشيعية، والعربية الفارسية وحروب ادعاء الإيمان على الكفر بشاشات التلفزة العربية والأوروبية والأميركية، وجرى حضّ المذاهب على الاقتتال، وسيطرة سياسات التخويف من الآخر واختلاق أساطير عن العداء الفارسي ـ العربي. ولا بدّ هنا من الإقرار بأن هذه السياسات الإعلامية الخبيثة نجحت نسبياً في اختراق النسيج الاجتماعي العربي والإسلامي. وأدركت بعض التنظيمات الفلسطينية المتعاطفة مع داعش والقاعدة والاخوان المسلمين.

ضمن هذه الأجواء الكثيرة الصعوبة، واصل الجيش السوري المتشكل من أطياف سورية وفئاتها ومناطقها كلها، واصل معارك الصمود والاسترداد التدريجي للمناطق غير المتأثر بصعود الخطاب الإعلامي المذهبي، والتجييش الوهابي والإغراءات.

ضمن هذه الأجواء أيضاً، وبالتحالف مع حزب الله والروس والخبرات الإيرانية والقوات الحليفة والرديفة، اجتاح الإرهاب وداعميه.. إلى أن وجد ظروفاً مناسبة، لردع الاعتداءات «الإسرائيلية»، خصوصاً أن أوراق السياسة الأميركية في سورية بدأت تسقط تباعاً. ولم يتبقّ لديها إلا ورقة الكرد شرق الفرات وورقة الاستعمال المباشر للجيش الأميركي، وورقة «إسرائيل».

وباستبعاد الحروب الأميركية المباشرة الواسعة النطاق لأسباب تتعلق بإصرار أميركي على تجنّب الحروب الكبرى مع الروس والإيرانيين.. ولأن الكرد غير منتشرين إلا في بعض أنحاء شرق الفرات، ولا يؤثرون بالتالي على المناطق الأخرى.

فقد شكلت ورقة الاعتداءات «الإسرائيلية» شبه الدائمة أسلوباً يمكن اللجوء إليه لإرباك الوضع السوري الداخلي، ودعم المعارضة التكفيرية معنوياً ومادياً، إلى ان تتمكن السياسة الأميركية من تشكيل أوراق بديلة، قد تكون لجهة العودة إلى جذب تركيا ضمن دائرة المصالح في سورية، وذلك بإيجاد ما يطمئن انقرة من المشروع الكردي الذي يثير قلقها إلى درجة الجنون.

لكن الردّ السوري من جهة ورد المقاومة من جهة ثانية جاءا صاعقين، إسقاط الطائرة «الإسرائيلية» واجتماع قيادات فلسطينية عند أمين عام حزب الله والإعلان عن اتفاق على فتح جبهات ثلاث في وجه «إسرائيل» عند أول اعتداء واسع تقوم به. جبهة سورية عند حدود الجولان، وجبهة الجنوب اللبناني وجبهات غزة والضفة في فلسطين المحتلة.

هذه هي المعطيات التي جرى بموجبها إسقاط طائرة «إسرائيلية» كانت تجسّد النصر «الإسرائيلي» منذ 1979.. وهي أيضاً الوسيلة لإعادة إنتاج وعي عربي أصيب بالإغماء والإحباط منذ عقد على الأقل.

ماذا الآن عن النتائج المتوخاة من حدة العملية الاستراتيجية؟

سورياً، أصيبت المعارضة السورية بضربة موجعة مع انكشاف أدوارها بشكل كامل أمام السوريين والعرب.. ولم تعد إلاّ أدوات في أيدي الأتراك و»الإسرائيليين» والسعوديين. وأصبحت تعجز عن إخفاء عمالتها أمام جيش عربي سوري يقاتلها وحلفاءها «الإسرائيليين» والأميركيين.. وهذا يمنح معارضات الداخل وروسيا وربما مصر، مصداقية أكبر من تلك المعارضة المقيمة في الفنادق التركية والفرنسية والسعودية، وتزور «إسرائيل» اللبواني وأمثاله وقطر وتنفق أموالاً كأمراء آل سعود وخليفة وشخبوط.

بالمقابل من المنتظر أن يؤدي إسقاط الطائرة إلى مزيد من التضامن الداخلي السوري على حساب تراجع السموم المذهبية والمناطقية التي لم تتموضع أصلاً في سورية إلا بشكل نسبي.

أما لجهة لبنان، فإن حزب الله متوثّب لنزالات جديدة مع العدو «الإسرائيلي»، مستنداً إلى إحباط أصاب بعض القوى اللبنانية الموالية للسعودية و»إسرائيل». وتأتمر بما يمليه عليها المعلم الأميركي، والدليل أن «معاون» المساعد وزير الخارجية الأميركي دايفيد ساترفيلد، استقبلته الطبقة السياسية اللبنانية وكأنه أمير للمؤمنين. واسألوا السيد جعجع كيف دعا للاستماع إلى نصائحه القيّمة، على حد قوله.

على المستوى الفلسطيني، فالصاروخ السوري أدى دوره في إسقاط نار المتآمرين على فلسطين من داخل السلطة الفلسطينية وخارجها. ولا شك في أن الإحباط الفلسطيني لن يبقى أسير التراجعات العربية وانعكاساتها.. ولن يتأخر في التحول غضباً ساطعاً إلى جانب حلف المقاومة في المنطقة.

الحكاية إذاً، ليست في الأبعاد المادية والعسكرية لإسقاط طائرة «إسرائيلية»، بقدر ما تتعلّق بإعادة إنتاج وعي عربي أصيب بتغييب وتحويل عن مساره التاريخي نتيجة للانهيارات المصرية والفلسطينية والأردنية والسعودية الخليجية، وعودة المواطن العربي إلى الإيمان بوجود حلف قادر على مقاومة السياسات الأميركية ـ السعودية ـ الإسرائيلية». من شأنها إعادة إنتاج هذا الوعي بعد إعادة تنظيفه مما شابه من آثار مذهبية وعرقية،. فالصراع اليوم هو صراع في وجه النفوذ الأميركي الذي يسيطر على عالم إسلامي ويسلبه إمكاناته الاقتصادية منصّباً عليه أنظمة قرون أوسطية ليست قادرة إلا على إنتاج مهرجانات للبعير والجنادرية وتنفق أموال العرب في شبه الجزيرة ومعظم بلاد العرب في المشرق والمغرب.

أما ملامح عودة الوعي فهي حالة الابتهاج التي عمّت العالم العربي في مختلف بقاعه. ما يكشف أن اليأس العربي إنما هو حالة مؤقتة صنعها إعلام روّج لهزائم أنظمة عربية تعمل في خدمة الأميركي. هذا هو الصاروخ الأول ولن يكون الأخير ـ لأنها معركة طويلة تستلزم «صبر ساعة» في لغة التاريخ.. ومن استطاع هزيمة الفرنجة والروم والعثمانيين والمماليك والجيوش الجرارة الفرنسية والبريطانية والأميركية، ليس عاجزاً عن إلحاق الهزيمة بالمحور الأميركي ـ السعودي ـ «الإسرائيلي» بمئات آلاف الصواريخ وهمم مقاتلين من فئات الجبارين يقيمون في خنادق بلاد الشام والعراق واليمن، حتى النصر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى