سلوى البنّا ترصد كوابيس الوطن في رواية «ستّ الحسن»

أيمن دراوشة

«أنا الوردة المخطوفة من أرض غاباتها أرز وصنوبر، وعطرها مزيج برتقال وليمون وياسمين، وبراريها تفوح بالزعتر، وتلوّنها أَزهار الختميّة وعبق الحبق الأخضر الهفهاف. وتغرّد في سمائها طيور الحب أَنا أغنية العاشقين على شواطئ بحرها، صدور بحارتها، وفي شباك الصيادين. وأَنا الدفء في عيون الصبايا، وقطرات الندى في جباه الفلاحين».

تبدأ رواية «ستّ الحسن في ليلتها الأخيرة» للفلسطينية سلوى البنّا ـ «دار الفارابي»، بيروت 2017 ـ بتوطئة غريبة ولا معقولة، إذ البداية عبارة عن تعريف بالشخصية الرئيسة عبر محاكمتها في يوم 31 ـ 2 ـ 2016، وبالتأكيد هذا اليوم لم يوجد قط. ويسألها القاضي: كيف قتلت الشيخ فواز؟ وهل قتل قبل أو بعد الدخول بك؟ بهذه البداية، تجذب الروائية القارئ إلى أحداث الرواية. هي حكاية وردة ستّ الحسن وحبها منذ الطفولة لحسن، يكبر الحب وينمو حتى يصل إلى مبتغاه بالزواج. إنَّ الرواية لا تتابع سيرة حياة وردة وحسن، بل ترصد عدة حيوات في الوقت نفسه. كذلك تمتاز الرواية بشخصياتها الكثيرة، على الرغم من حجمها المتوسط، كما جاءت بعض الشخصيات غرائبية وكأنها خرجت من رحم ألف ليلة وليلة، ومن بطن الأساطير.

الحكاية وتقنياتها

تتبنى الخالة شهلة، وردة بعد موافقة أمها وأبيها وقد أنجبا الكثير من الأولاد، وكانت شهلا وزوجها قد عجزا عن الإنجاب. تتربى وردة في كنف خالتها وزوجها نور، وتقع في حب ابن الجيران حسن، وتبدو القصة للوهلة الأولى مكررة، غير أنَّ الكاتبة جعلت من هذه الحادثة البسيطة رواية متقنة، ومبتكرة وأصيلة، فهي رواية الأصوات الكثيرة المتداخلة. كما ترتكز الرواية على تقنية التداعي الحر، من خلال السرد الغرائبي الذي وضعنا في عالم لاواقعي وغامض. فتخبرنا الشخصية من خلال الحوار الداخلي عن ذاتها ومشاكلها وأحلامها. تصف الروائية حب حسن ووردة منذ الطفولة «يمسح بأصابعه على شعرها. يتملكه إحساس عارم بالرجولة. وهذه الوردة التي لا يتعدّى عمرها السنوات العشر تتنفس الطمأنينة على صدره، وكأنه يكبرها بعشرين سنة أو أكثر. لا بسنتين فقط تساءل وهو يلتقط بقلبه أنفاسها الدافئة، والعابقة بعطر الياسمين «لماذا تغفو وردة فجأة على صدره قبل أَنْ ينهي لها الحكاية». أَمّا وردة فتعبر عن حبها بطريقة جميلة، تقول: «لا أَعرف متى رأيت حسن لأول مرة. يُخيَّل لي أَنني وهو ولدنا معاً، ومن رحم واحد. توأمان عاشقان»..

تظهر الخالة شهلة امرأة محبة وحنونة وقوية، وسعيدة في حياتها مع زوجها نور الضابط الشرس الذي خاض الحروب وما زال يحارب خفافيش الليل الذين هجموا على الوطن من كل حدب وصوب. لذلك لم يعترض عندما تقدم حسن لخطبة وردة، رغم إنَّ حسن مهندس حالم، التحق بالجيش، والحرب الهمجية على الوطن تحاول التهامه، فهو يعرف قيمة الوطن، وإنَّ الذي يحافظ على أرضه سيعرف ولا شك كيف يحافظ على بيته وزوجته.

عالم ألف ليلة

الشخصيات الشريرة في الرواية تمثلت بالشيخ «مقبل»، الذي كان سيِّداً قاسياً يذيق عبيده العذاب، وكان كلما يرى امرأَة جميلة يضمها إلى جواريه بالقوة. من ليليانا الجارية الإثيوبية أنجب فواز، ولكنه لم يعترف به، بل زوّجها من أحد عبيده سطام، وسجل فواز على اسمه، عندما كبر ظل يعاني من عقد نفسية رهيبة حطمت حياته وحياة من حولة، فأمَّه الجارية وبعد أن ملَّ منها الشيخ مقبل أشعلت النار في نفسها، ولم يغب يوماً عن الشيخ فواز ظل أبيه الصارم، ولا أمه الجارية المنتحرة. الوحيدة لتي هزمت الشيخ مقبل هي نائلة التي جلبها من اليمن، إذ لم يستطع أن يروضها فاغتصبها، وألقى بها في البئر، ولكنها لم تمت قبل أَنْ تضع مولودها «حجل»، أَمّا العبد الأسود العملاق ميمون فقد أَخصاه الشيخ مقبل بعد أَنْ وقع في عشق إحدى الجواري «سيلينا» وقتلها. الشيخ فواز وبسبب حياته المعقدة، عاش مرتعباً من والده الحقيقي، ومحتقراً سطام الضعيف والعاجز، لذا في أول فرصة قتل فواز والده واستولى على أَملاكه، وكان قد تزوج من امرأة بشعة وللمفارقة اسمها «مزيونة»، ولكنها كانت ابنة شيخ واسع الثراء، فأصبح الشيخ فواز يحوز ثروة طائلة، وسلطة مطلقة، لذا وبعد عثوره على ست الحسن، تخلص من مزيونة بقتلها. الشيخ فواز الذي يملك الكثير من الجواري وله جولاته الجنسية العظيمة، بهره جمالها الساحر، وكان عثر عليها أحد القوادين في أحد الأنفاق التي يبدو تم تفجيرها، ما أَدّى لمقتل الخالة شهلا، وكانت ست الحسن قد فقدت أَيضاً زوج خالتها الذي مات على فراش المرض وهو المحارب الشرس. باعها القواد إلى الشيخ فواز، الذي أخذها إلى قصره وهو يحلم بمضاجعة امرأَة فائقة الجمال.

وكانت المفاجأة، إذْ بعد محاولات شتَّى، يقول الشيخ فواز: «هي ست الحسن هذه بشعرها الأشقر الطويل حتى أَسفل مؤخرتها، وعينيها الفيروزتين المحاطتين بسنابل من القمح براقة، تتحدى رجولته كل ليلة». يعض بقسوة على شفته السفلى فيجرحها، ويضيف: «كل هذا الفيض من الذكورة ينطفئ عند أول لمسة ويتلاشى». ولكنه لا يكف عن المحاولة ويستعين بزوجته مزيونة التي تتصل بساحرة التاريخ «عفرين» ولكن بدون جدوى. ويبقى يردد كل ليلة، إنَّ الليلة لن تفلت ست الحسن من قبضتي. وعندما يحين الليل يتفقد ذكره المنتصب، وعيناه تتقدان شهوة، يعريها، وينظر إلى الجسد الطري، فتنطفئ جمرته، ويتهاوى كجثة بجانب السرير. فست الحسن أَبداً لم تستطعْ نسيان حسن، بعد أَنْ استشهد في إحدى معارك الوطن ليلة عرسها، وبقيت عصية على الشيخ فواز لأَنَّ عقلها وقلبها أخذهما الحبيب حسن.

مفاجأة النهاية وتأويلاتها

وفي النهاية يشترك ميمون وحجل في قتل الشيخ فواز وتخليص الناس من جبروته، بعد أن حاول أن يقتل ست الحسن، أغمي عليها، وتدخلت الداية حليمة، وسكبت كوب ماء ممزوج بعطر الياسمين. ابتسم حجل وصفق، وقال: «هزمت ست الحسن الغربان». في المحكمة اعترف ميمون بقتله الشيخ فواز، وكذلك فعل حجل، وحضرت النساء الثلاث نائلة، وليليانا، وسيلينا وشكلن حلقة مغلقة حول كبير القضاة. قالت نايلة بكبرياء وشموخ: «أنا من قتل الشيخ فواز». ردّت سيلينا بحقد يضاهي الفزع في عينيها: «وأنا مَنْ فصلَ رأسه عن جسده». صرخت ليليانا بجنونها المعهود وأنا بترت كنزه الثمين وعلّقته في فمه». وتشابكت أَيديهنَّ في رقصة جنائزية شلّت حواس كبير القضاة وارتجف لها قلبه. ففي النهاية لا فرق بين مجرم ومجرم كلهم شخص واحد، وبقتل الشيخ فواز كان للأرض أَنْ تتحررَ وتتنفس حرية.

تبقى الرواية حيّة ومشوقة حتى نصل الى المفاجأة الصادمة، تقول الروائية في نهاية روايتها: دوَّى صوت انفجارات متلاحقة، خافت شهلا، طمأنها نور إنها عبارة عن مفرقعات يلعب بها الصبية، وضحك واحتضنها، وذابت على صدره، فحذرها بأنهما ليسا وحدهما، عندها نزعت نفسها من حضنه، ودنت من السرير الذي تغفو عليه صبيّة كأنها البدر. رفعت من على جبين وردة المتوهج بالحمّى كمادة الثلج ووضعت مكانها الأخرى.. وهي تردّد بحزن شديد «طالت غيبتها عنّا يا نور .. اشتقنا لوردة». فلم تكن الرواية إلا كوابيس متلاحقة طاردت وردة ست الحسن التي كانت بغيبوبة لا نعرف زمنها، لقد نجحت المؤلفة في شد القارئ حتى آخر كلمة، مع نهاية مدهشة ستبقى في ذهن المتلقي فترة طويلة.

كاتب فلسطينيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى