صناعة الوهم… التطبيع نموذجاً

شادي بركات

أماطت السنون الأخيرة اللثام عن عشرات شبكات التخابر مع العدوّ، والتي كشفت التحقيقات فيها أهدافاً متعدّدة خلف تجنيدها، أبرزها «العمل على تأسيس نواة لبنانية تمهّد لتمرير مبدأ التطبيع مع إسرائيل، والترويج للفكر الصهيوني بين المثقّفين»، حسبما ورد في الاعترافات الأولية التي أدلى بها الممثل زياد عيتاني الذي أوقفه جهاز «أمن الدولة» بتهمة التخابر مع العدوّ، تبعه تصوير مخرج لبنانيّ مبتدئ فيلمه داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

الحالة التطبيعية وما صحبها من مواقف وأحداث مرتبطة كانت محطّ حوار بيني وبين أحد الرفقاء، ارتأيت أن تخرج خلاصته في نصّ لتكون مادة تواجه سياقات التطبيع وسردياتها.

تعريف لغوي

لغوياً، تعرّف معاجم اللغة العربية التطبيع بجعل العلاقات مع العدوّ طبيعية وعادية. وفي الثقافة «تطبُّع ثقافيّ» تعني عملية اكتساب ثقافة دون الثقافة القومية وبيئتها. أما كاصطلاح سياسي، فتعني تبرير فعل الاتصال بالعدوّ بالتبادل الاقتصادي والتجاري والتفاعل الثقافي مع أفراد ومؤسّسات تنتمي إلى الاجتماع السياسي للعدو.

قرائن واهية

جملة عوارض سوسيولوجية وسيكولوجية يخضع لها ذهن المطبّع كفرد أو كجماعة، تروّج للتطبيع. وفي واقع اجتماعيّ مفكّك وبلاد تعاني من الحروب، يصبح تبرير الضعف وعدم الفعالية والانفتاح ومؤثرات «الأنسنة» لبرامج المنظّمات الدولية، مبرّراً نفسياً فعّالاً. للمفارقة القضايا القومية لا تؤنسن إلا في بلادنا .

أحد محرّكات هذا الوهم هو الجهل، والبعد عن المنهج العلمي. وأهمّ هذه المحرّكات هو الإحساس العميق بالهزيمة والضعف، وهو ما يتداول في لغتنا الصحافية باصطلاح «فقدان الكرامة الوطنية». فمن لا يرى قيمة أفعال المقاومة بسيطة وقليلة القدرات العسكرية والاقتصادية على تعطيل مشاريع العدوّ في السنوات المئة السابقة، لن يستطيع أن يفهم جدوى المقاطعة وأهميتها القصوى في أفعال المقاومة وفي مستقبل أبناء شعبنا وحياتهم ورخائهم. لو قدّر لأحد أن يحصي أعداد الشهداء في منطقتنا منذ الحرب العالمية الأولى ويقارن هذه الأعداد بأعداد ضحايا الحروب الكبرى والمحارق الذرّية، لفهم وزن ومعنى عدم استسلام هذه البلاد للأمر المفعول، ولفهم معنى ووزن ثقافة المقاومة كمفهوم للحقّ بالحياة والتمسّك العميق بها.

قدرات محدودة تبحث عن إنجاز

يذهب مُخرج متوسّط القدرات الذهنية والفنية إلى فلسطين المحتلة ويتعامل مع الاحتلال وأجهزته الأمنية والعسكرية وهو موهوم أنّ الطريق التي سلكها هي طريق «العالمية» والشهرة والتفوّق، مستنداً إلى وهم تفوُّق عنصر العدوّ… وهذا الدويري، لا هو خَرَجَ من متوسطّية قدراته الذهنية ولا هو يستطيع أن يعدّد كمّية الأفلام «الإسرائيلية» العالمية التي شاهدها في السينما، أو كم شاعراً «إسرائيلياً» شاهد أدباً عالمياً له، أو كم مقطوعة موسيقية سمفونية أنتجتها ثقافة القتل والعنصرية، أو كم ميدالية رياضية حاز عليها… ما فعله إضافة إلى جرم زيارة الأراضي المحتلة والتعامل مع إدارتها العسكرية والأمنية ، هو أنه وضع صناعة السينما اللبنانية في موازاة صناعة سينمائية «إسرائيلية» متخلّفة ومنفّرة وفائقة العنصرية وجمهورها محدود جدّاً، ولا تستطيع أن تشق طريقها في الأوساط الثقافية في العالم.

من جهة موازية، تُستخدم عناوين الحداثة والانفتاح على العالم الحضاريّ والتكنولوجي كذريعة للتطبيع… لا شك في أنّ الإنتاج العلميّ الغربيّ متقدّم عمّا هو في بلادنا، وهنالك حاجة إليه من دون الإغفال عن دور المشروع الاستعماري الغربي بتخلّفنا . لكن ذلك مرتبط «بالحاجة» إلى ما لا يتوفّر بديل محليّ له. مع العلم أنّ ما يسمّى «انفتاحاً» على العالم الغربي لم يحوّلنا إلى منتجين، بل إلى أسواق استهلاكية مستعبَدة.

لذلك، نرى أنّنا كمجتمع استهلاكيّ «غير منتج» يجب علينا توجيه سياساتنا الاقتصادية نحو تعزيز الإنتاج القومي والبحث العلمي وخلق البدائل منعاً لتمييع قضايانا ورهن ثقافتنا وسيادتنا للمحتلّ على حساب حقوقنا القومية المرتبطة بفرص الحياة والمستقبل.

تجارب في الذاكرة

«لمّا كان الواقع الاجتماعي في ذاته هو نظام الخطاب، فإن النظام الاجتماعي كان دائماً مَنشأ ومحل نزاع ومعاد إنتاجه عبر الثقافة». وبالتالي، أيّ مشروع سياسيّ اجتماعيّ يمرَّر عبر تثبيت مخدّة ثقافية له.

تدخل عوامل كثيرة تسهّل هذا الانفلات التطبيعي، إن صحّ التعبير، قد يكون أبرزها ما يصاغ في الإقليم من سياسيات تسووية تحت مسمّيات مختلفة. لسنا في هذا المقال بصدد مقاربتها. إلّا أنّ مشاريع التسوية والتطبيع بأشكاله كافة عبر تاريخنا الحديث من «كامب دايفيد» إلى «وادي عربة» و«أوسلو» لم تنتج إلا سلسلة من الانهيارات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية الضخمة، وهذا أمر طبيعيّ. فقواعد الوجود تسير بشكل عكسيّ مع قواعد التطبيع.

أن نكون مجتمعاً يطبّع علاقاته مع دولة محتلة تهدّد وجودنا بشكل يوميّ فهذا، إضافة إلى كونه يرتّب تبعات اقتصادية واجتماعية وتنازل عن حقوق غير قابلة للتصرّف بحسب القانون الدوليّ وشروط العدالة والحقّ بالأراضي التي احتلت وبمقاضاة مجرمين مسؤولين عن آلاف المجازر، إنما هو تنازل عن حقوق مكتسبة لا تسقط بالتقادم. فهي ملك أجيال لم تولد بعد. إضافة إلى تقديمه الخرافات اليهودية كحقائق علمية توازي حقّنا القوميّ، وهي جريمة توازي جريمة اقتلاع شعبنا من أرضه.

كما لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مقوّمات الحياة للدولة اليهودية خارج المعونات والمدّ المالي والمعرفيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والعسكريّ الغربي معدومة. وهذا يعني أنّ أعباء كثيرة تترتّب على خزائن الدول الغربية وميزانياتها العسكرية للحفاظ عليها كثكنة احتلال عسكرية تحمي المصالح الغربية على الحوض المتوسط. ما يعني أنّ التطبيع بأشكاله المختلفة هو منفذ هذا الكيان الوحيد للهواء والحياة، والسبيل الممكن لتخفيف الأعباء الناتجة عن سدّ حاجات إمداده بالتنفّس الاصطناعي الغربيّ ليبقى على قيد الحياة.

الجهل يولّد النفايات

من نكد الدهر أن يشهد شعبنا في لبنان مشهد تبعات الاعتقاد الطائفي والتخلّف بتمظهر فيزيائي يتمثّل بأطنان من النفايات في وديان ومحمّيات طبيعية توزن بالعمر الجيولوجي.

وربما الإشارة إلى النفايات الفيزيائية تدلّنا إلى مشهد النفايات الثقافية. فمن سُنَن التطوّر، الجماعات الإنسانية تكون منتجة للثقافة والقيم. وفي مسار تطوّرها العلمي تطرح ببطء ما ينتمي إلى الجهالة والتخلّف. من المفيد سرد مثلين لا علاقة لهما ببلادنا في السياسة والاقتصاد:

أوّلاً: في أواسط ثمانينات القرن الماضي، كانت أجهزة الدعاية في الغرب تدعم أهم حليف لكيان العدو نظام الآبرتهايد في جنوب أفريقيا ، وهو نظام مبنيّ على وهم التفوّق العنصريّ، تماماً كصناعة كيان العدوّ مئات الأفلام التاي تروّج لإرهاب المقاومة المحلية. اليوم هي في مزبلة التاريخ، لا ترشّح إلى جوائز ولا تقطف ثماراً ماليّة. الملصق المرفق يسمّي ضحايا الاحتلال العنصري في جنوب أفريقيا بـ«الجزّارين»، تماماً كرسالة فيلم دويري.

ثانياً: في العالم الاقتصادي كذلك، الأمر شديد الالتصاق بالتطوّر الثقافي. فكلّما تطوّرت الجماعات البشرية ازداد وعيها على مخاطر الاستهلاك المعاكس للعلم والطبيعة. من يقبل اليوم تشجيع استهلاك بضائع تدعم صناعة القتل والتهجير وتبرير أكبر جريمة معاصرة، عليه أن يتوقّع، وبِسُنن التطوّر، مكانه في المستقبل كمجرم وكشريك في الجرم. وكما الملصق المرفق الذي كان مقبولاً جدّاً قبل تسعينات القرن الماضي المزيد من العلماء والأطبّاء يدخّنون سجائر كَنت مع فيلتر ماكيكرونايت ، هل يفكّر زياد دويري بعد مدّة من الزمن كيف سيتفاعل أبناء بلدته مع مخرج متوسّط القدرات الذهنية يزعم أنّ «المزيد من المثقّفين في لبنان يدعمون إسرائيل المُحِبّة للسلام»… حتماً المشهد واحد: كلاهما سرطان.

خاتمة

لا شكّ في أنّ المهرجانات الغربية تكسب بعض المشاريع الفنّية دعاية ما. لكن الأكيد أنها ليست مجانية خصوصاً إذا كانت مشاريع متوسّطة . وإنّ أيّ عمل إبداعيّ ينقل واقع شعبنا ونضالاته ويضيء على جرم الاحتلال، لن تكون لديه مساحة على مسارح الدول الراعية هذا الاحتلال مهما حمل من إبداع فنّي وثقافيّ، لا لشيء سوى أنّنا نعيش في عالم تحكمه المصالح وحدها، لا مشهداً تمثيلياً تعاد مَنتَجَته بحسب أهواء مخرج غرّ.

رافقت حالة زياد دويري حالة العميل المُدان زياد عيتاني، وهو إن كان يعمل في مجال الفنون المسرحية، إلا أنه في خانة قانونية واجتماعية يجب عدم دمجها بالمقاطعة. فقواعد المقاطعة لا تنطبق على العملاء لاستخبارات العدو، لكنها تنطبق حكماً على تسويغ شرعنة وجود العدوّ ونقله في ذهن الناس والمستهلكين من حالة العدوّ إلى حالة أخرى غير معرّفة.

ببساطة، لأنّ العدوّ لا يريد أن يرانا إلا أعداء. ولأنّ وجوده بطبيعته نقيض وجودنا الإنساني، كلّ سياقات التطبيع تكون حكماً مرفوضة حتى تلك التي تحاول التستّر خلف الخطاب الديني لتسويغ زيارة الأرض المحتلة سواء المسجد الأقصى أو أيّ كنيسة رعوية في الأرض المحتلّة. فحتى على مستوى الخطاب الديني، رغم كلّ رجعيته، لا يريد العدوّ ذو الرجعية أن يرانا إلا أعداء، ولأنّ مؤسّساته الدينية على النقيض.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى