أبعد من إسقاط طائرة

معن بشور

لم تكن طائرة الـ «أف 16»، الأميركية الصنع، «الإسرائيلية» الاستخدام، هي الوحيدة التي سقطت صباح يوم السبت الماضي، وتوزّعت شظاياها، وشظايا الصواريخ التي استهدفتها، بين فلسطين وسورية ولبنان والأردن، بل سقطت معها معادلات استراتيجية، وتحليلات انهزامية، وعلاقات سياسية، ورهانات تاريخية ومنظومات فكرية أفاض المحللون والمعنيون في عرضها وكشف جوانبها…

لكن الذي سقط أيضاً سقوطاً صارخاً هو النظام الرسمي العربي الذي تحكّم بالمصير العربي على مدى السنوات السابقة منذ احتلال العراق، واستدعاء الناتو لليبيا، والانخراط في تدمير سورية ومصر والأردن واليمن وصولاً إلى دول المغرب العربي والكيانات القائمة في الخليج والجزيرة العربية.

فمنذ بداية القرن الحادي والعشرين، وتحديداً منذ بداية ما سُمّي بالربيع العربي، بدا واضحاً أنّ النظام الرسمي العربي قد اختار سياسة الخرق المستمرّ لميثاقه وللاتفاقات المتصلة به والانصياع لإرادة صهيو استعمارية في مواجهة إرادة شعبية عربية وإسلامية اختارت طريق المقاومة وكانت لها انتصارات في أكثر من ساحة وميدان وبلد.

لم يكتف موجّهو النظام الرسمي العربي، ما عدا بعض الاستثناءات، باعتماد سياسة الاستقواء بالأجنبي لتصفية حسابات مع مقاومة متمرّدة على الإملاءات الصهيونية دولاً وحركات وأفراداً ، بل أحاطت نفسها بمنظومة سياسية وثقافية وإعلامية تخدم سياستها عبر إثارة كلّ أشكال التحريض الطائفي والمذهبي والعرقي وإشاعة أجواء من الاستسلام والانهزام في تمهيد واضح لتصفية قضية الأمّة المركزية في فلسطين، وفي التغطية على انتقال بعض النظام الرسمي العربي من حال الصمت والتواطؤ مع جرائم الصهاينة إلى حال التطبيع والتحالف مع الكيان الصهيوني.

كان الإرهاب بوجهيه الفكري والمتوحّش هو أحد أسلحة هذه المنظومة لمواجهة إرادة المقاومة ولضرب وحدة مجتمعاتها وبلدانها وكياناتها مستنداً إلى قوى وجماعات جرى تضليلها واستغلالها في أقذر الحروب التي شهدها العالم، ولكن هذا الإرهاب كان مستنداً بشكل خاص إلى ميزان قوى كان يميل لصالح العدو الصهيوني الأميركي رغم بروز مظاهر الوهن والضعف التي أخذت تظهر على القوى المهيمنة. وهي تلك التي ظهرت بشكل خاص إثر انطلاقة المقاومة العراقية الباسلة، وتجذّر المقاومة اللبنانية الظافرة وتجدّد الانتفاضة الفلسطينية ناهيك عن صمود سوري لم يتوقعه كلّ من خطط لتدمير سورية كواسطة عقد بين قوى المقاومة في الأمة والإقليم.

في ظلّ هذا التأرجح في موازين القوى الذي شهدناه في العقدين الماضيين، ايّ منذ بداية هذا القرن، طال زمن المواجهات الدموية على امتداد أقطار رئيسية لا سيما في سورية والعراق واليمن وليبيا وصولاً الى مصر، في تعبير صريح عن أنّ قوى المقاومة والممانعة كانت تمتلك من القوة ما يحول دون سقوطها، ولكنها لم تكن تمتلك القوى الكافية لحسم المعارك لصالحها نتيجة الحشد الهائل بشرياً وعسكرياً ومالياً وإعلامياً الذي تواجهه في حرب كونية غير مسبوقة.

وإذا كانت موازين القوى قد بدأت في السنوات الأخيرة تميل لصالح قوى الاستقرار والاستقلال والوحدة والسيادة والمقاومة في أكثر من قطر عربي، فإنّ إسقاط الطائرة «الإسرائيلية» على يد الدفاعات الجوية السورية المدعومة من الحلفاء هو بداية مرحلة جديدة في هذا الصراع داخل الأمة وبينها وبين أعدائها…

كان واضحاً لكلّ المحللين الموضوعيين أنّ مشروع الهيمنة والفتنة والتدمير في المنطقة يعتمد في قوته على احتياطي استراتيجي كبير هو الدعم الصهيو أميركي الذي لم يكن يُخفي تدخّله في أكثر من محطة تاريخية لرفع معنويات حلفائه وأدواته كلما أصيبوا بهزيمة موضعية في هذه الجبهة او تلك.

وكانت نقطة القوة الرئيسية في هذا الاحتياطي الاستراتيجي هو التفوّق الجوي العسكري الصهيوني الذي كان على مدى عقود الصراع العربي – الصهيوني عامل الإسناد الرئيس لأعداء العرب.

فكلّ مقاوم للمشروع الصهيو أميركي، حاكماً كان أم مجاهداَ، كان يحسب في كلّ مواجهاته حساباً لهذا التفوّق الجوي مما يعطي للعدو هامشاً واسعاً ليس في مجال الضغط على الدول والحركات المقاومة فحسب، بل أيضاً دفعاً لقوى الفتنة والتدمير لتمضي في غيّها وعدوانها.

في هذا الإطار، يشكل يوم السبت في 10 شباط/ فبراير 2018 يوماً تاريخياً في حياة الأمة، لأنّ إسقاط الدفاعات العربية السورية للطائرة «الإسرائيلية» الضخمة هو إدخال المنطقة في معادلة جديدة تفرض على تل أبيب من بعدها أن تعيد حساباتها بشكل جذري على مستوى الأمة والإقليم، كما كان لانتصار المقاومة في جنوب لبنان عام 2006 الأثر الكبير في بناء معادلة توازن رعب حاكمة في لبنان لأكثر من 12 عاماً.

بل في هذا الإطار يمكن ان نتوقع تراجعاً ملموساً في حروب الفتنة الكونية، كما اندحاراً «إسرائيلياً» عن أرض محتلة في فلسطين والجولان ومزارع شبعا.

في ضوء هذه اللحظة التاريخية، لا بدّ من دعوة الجميع إلى مراجعات جذرية لسياسات اعتمدت، وتحليلات شاعت في ضوء ما أسميته يوماً لدى انتخابي أميناً عاماً للمؤتمر القومي العربي في صنعاء في حزيران عام 2003 بعد احتلال العراق برباعية الخلاص وهي: 1 المقاومة 2 المراجعة 3 المصالحة 4 المشاركة، وهي رباعية تتحصّن اليوم بما أسميته لدى مناقشات المشروع النهضوي العربي بثلاثية 1 التواصل 2 والتفاعل 3 والتراكم.

إنّ الترجمة السياسية لهاتين المعادلتين يكمن في أمرين أساسيين:

1 ـ إعادة ترتيب البيت العربي والإسلامي على مستوى الأمة والإقليم على قاعدة الاعتماد على الذات وعدم الرهان على العدو والاستقواء به.

2 ـ إعادة ترتيب البيت الداخلي في أقطارنا العربية والإسلامية على قاعدة الحوار والمصالحة والمشاركة والخروج من الأحقاد والمصالح الذاتية والفئوية…

في هذا الترتيب على المستويين المحلي والبيئي، لا بدّ من التركيز على أمرين…

أوّلهما إسقاط القرارات الجائرة بتعليق عضوية سورية، في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وفرض الحصار والعقوبات عليها، وهو قرار تتضح يوماً بعد يوم خطورته على مصير الأمة وقضاياها، خصوصاً بعد أن بات واضحاً أنّ كثيراً من هذه القرارات المريبة والمعيبة والصفقات المتصلة بها صفقة القرن وأمثالها ما كان له أن يصدر لو كانت سورية، وهي العضو المؤسّس في المنظومتين حاضرة في المحفل الرسمي العربي والإسلامي.

وقد لا تكون القيادة السورية مستعدّة لقرار التراجع هذا إذا لم يرافقه اعتذار واضح لشعبها وجيشها وذوي شهدائها، ولكن ينبغي أن يتحوّل هذا المطلب الى مطلب دائم للحركة الشعبية العربية وحركة التحرر العالمية.

وثانيهما: إعادة توجيه البوصلة نحو العدو الرئيسي للأمة العربية وحشد الطاقات في سبيل مواجهته لا سيما عبر احتضان المقاومة كلغة لا يفهم العدو سواها، والتي أثبتت جدواها ليس في إرباك العدو الصهيوني وحلفائه فحسب، بل في دحر الاحتلال عن أرضنا المحتلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى