مستقبل «إسرائيل»: مقاربات متعدّدة مع تركيز خاص على مقاربة علم الاستعمار الاستيطاني المقارن 2

د. جورج جبور

كانت المدة منذ بداية الستينات وحتى منتصف السبعينات هي المدة الزمنية الأنسب سياسياً لإنضاج علم الاستعمار الاستيطاني. ففي عام 1975 كانت اتفاقية سيناء الثانية ثم كانت زيارة الرئيس السادات الى القدس. أخذت الأمور تسير، في مستوى السياستين العربية والعالمية، باتجاه محاولة تذويب التناقض في فلسطين بين المستوطنين والسكان الأصليين لصالح الإقرار بتفوّق المستوطنين. ولم يستطع استقلال زيمبابوي وتصاعد النضال في جنوب أفريقيا ممارسة تأثير إيجابي عربياً وعالمياً لصالح الإنضاج.

ولا ريب انّ العبء الأكبر من التقصير إنما يقع على عاتق الأكاديميا العربية. وحدها جامعة الخرطوم أنشأت مقرّراً في الدراسات العليا عنوانه: «الاستعمار الاستيطاني المقارن»، ولعله لم يدم طويلاً. أما معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة، وهو الذي أحيل اليه مشروعي المتبنّى من رئيس الجمهورية العربية السورية، فقد اكتفى بأمرين. اولهما أنه عهد اليّ، ولمرة واحدة، في إعطاء مقرّر دام أسابيع قليلة، عن علم الاستعمار الاستيطاني. وثانيها انه أصدر كتاباً عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين كان كارثة علمية لأنه أغرق الدراسة الوحيدة فيه عن علم الاستعمار الاستيطاني بفيض من المعلومات المتداولة وغير الممنهجة عن واقع الاستيطان الصهيوني المتوسع في الاراضي المحتلة. أما الجمعية العربية للعلوم السياسية، وقد جرى اختياري رئيساً للجنتها التحضيرية عام 1977، فقد بذلت كثيراً من الجهد فيها، منذ تأسيسها عام 1985، لكي تهتمّ بعلم الاستعمار الاستيطاني ووليده المتألق، القرار 3379، فلم أفلح. شغلت الجمعية أكثر ما شغلت بتأييد السياسات العراقية ضدّ إيران عهد الرئيس صدام حسين. كان للعراق فضل التمويل، وبفضله كانت لها اجتماعاتها الدورية المنتظمة. ثم آلت الأمور، بعد انتهاء عهد الرئيس صدام حسين، الى فوضى تمويلية وتنظيمية وفكرية من أبشع مظاهرها أنّ أحد مؤتمراتها الفكرية، وقد عقد في مصر بتنظيم من الدكتور علي الدين هلال، قام بتمويله رجل أعمال مصري هو احد اكبر دعاة التطبيع مع «إسرائيل». وأختم ببارقة أمل وباعتراف. بارقة الأمل التي لم تسعفني قدراتي التكنولوجية لأتمكن من توثيقها هي أنني ذات يوم قرأت عبر الحاسوب عن جامعة أميركية أحدثت مقرّراً لدراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن، وانّ هذا المقرّر كان موضع مناقشات علمية حادة لا أعرف إنْ آلت الى نتيجة حاسمة. أما الاعتراف فمؤداه أنني أعاني من نقص في القدرة على المتابعة بسبب عدم استيعابي الكافي لتقنيات الاتصال، وبسبب الوضع الذي تعاني منه سورية منذ عام 2011، والذي تتمثل إحدى نتائجه في تضاؤل الاهتمام الأكاديمي خاصة والفكري عامة بما لا يخصّ متطلبات الحياة اليومية المباشرة…

ثم انه قد يكون من المفيد أن أمثل على ضحالة الأداء الأكاديمي فلا يبقى الكلام مرسلاً دون سند…

أثبت هنا فقرتين أوردهما أكاديميان عربيان في وصفهما لدراسات الاستعمار الاستيطاني، ثم أعلق عليهما.

كتب الدكتور سميح فرسون، استاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأميركية بواشنطن العاصمة، ضمن دراسة نشرتها مجلة «شؤون فلسطينية» العدد 47 تموز 1975 ص 164 بعنوان «جنوب افريقيا وإسرائيل: علاقة خاصة»، كتب ما يلي: «لم يدرس الاستعمار الاستيطاني والدول التي شيّدها المستعمرون دراسة كافية ولم يحلل تحليلاً نظرياً. وتشتمل المحاولات الأخيرة المتسمة بنفاذ البصيرة على ب. ل. فان دون برغ 1967 ، ايمانويل 1972 ، جورج جبور 1970 ابراهيم ابو لغد وبهاء ابو لبن 1974 .

أما الدكتور مجدي حماد، وهو حالياً مدير جامعة خاصة شهيرة في لبنان، فأورد في كتابه «النظام السياسي الاستيطاني: دراسة مقارنة: إسرائيل وجنوب اقريقيا» بيروت، دار الوحدة، 1981 300 صفحة : «انّ ظاهرة الاستعمار الاستيطاني، وخاصة الدول التي شيّدها المستعمرون، لم تدرس دراسة كافية ولم تخضع لتحليل نظري متكامل. وتشمل المحاولات الحديثة نسبياً المتسمة بالتعمّق على دراسات فان دين بيرج 1967 وجورج جبور 1970 وايمانويل 1972 وابراهيم ابو لغد وبهاء ابو لبن 1974 وريتشارد ستيفينز وعبد الوهاب المسيري 1977 . وكتابه في الأساس رسالة دكتوراه أعدّها في جامعة القاهرة.

وتعليقي على الفقرتين محب وصارم معاً.

محب لأنّ الأكاديميّين العربيّين، وثانيهما صديق، أوردا اسمي ضمن ما أوردا من أسماء. كان بإمكانهما، ضمن حالة ضعف الأكاديمية العربية، إهمال الاسم. وللعلم، فقد أخلّ بالأخلاقيات الأكاديمية المتعارف عليها معهد البحوث والدراسات العربية الأخلاقيات في القاهرة الذي كلف بمهمة تنفيذ مشروعي عن دراسات الاستعمار الاستيطاني المتبنّى رسمياً من الحكومة السورية. ولي عن هذا الأمر صفحات مطوّلة أرشد اليها من يشاء.

وصارم لأنّ الفقرة الثانية تكاد تكون نسخاً للفقرة الأولى، إلا أنّ صاحبها لم يشأ ان يعترف بما وبمن نسخ عنه، متبعاً في ذلك التقاليد الراسخة في ضعف الأخلاقيات الأكاديمية العربية.

وأذكر هنا للدكتور المسيري فضله في متابعة البحث في الاستعمار الاستيطاني وقد تجلى ذلك في موسوعته المعروفة عن اليهودية والصهيونية و«إسرائيل». كما أذكر له رفعة تمسكه بالأخلاقيات الأكاديمية من خلال تعامله مع كتاباتي في حقل دراسات الاستعمار الاستيطاني.

قلت في موضع سابق انّ دراسات الاستعمار الاستيطاني، من حيث فائدتها في تأجيج النضال العربي بمواجهة الأطماع الصهيونية، عانت من النكسات بدءاً من اتفاقية سيناء الثانية. وفي الحق أنّ الاتفاقية تزامنت مع صدور القرار 3379 المساوي بين الصهيونية والعنصرية. وإذا كان من الواجب العلمي والأخلاقي ذكر انّ الاتفاقية التي عقدت قبل أسابيع قليلة من صدور القرار لم تمنع الدبلوماسية المصرية من التصويت لصالحه في الجمعية العامة، فانّ من المفيد لصالح العلم، وقد انقضت عقود أربعة ونيّف على ذينك الحدثين، ان يتصدّى باحث لدراسة محاولة افترض انّ إسرائيل قامت بها للحيلولة دون تأييد مصر للقرار 3379.

ماذا كان أثر القرار 3379 على دراسات الاستعمار الاستيطاني؟ بالمنطق العلمي، كان من المفترض ان تجند الأكاديميا العربية نفسها للدفاع عن القرار دعماً لموقف الدول العربية الموحد المؤيد للقرار، والسبيل الأوضح لتلك العناية بدراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن. دعم الموقف بالعلم، والعملية المعاكسة، ايّ الاعتماد على العلم لبناء الخيارات السياسية، هو أسلوب تعامل أكاديميّي العلوم السياسية في الغرب مع المجريات السياسية التي تهمّ بلدانهم. ما يزال هذا الأمر بعيداً عن أجواء السياسة العربية. صدر القرار 3379 وهدّدت أميركا من يؤيده، فتيتم. غاب البحث العلمي. غابت الهمة السياسية المتصلة بالعالم اتصال الفاعل. ترك القرار لمصيره. استولى عليه فهم جماعي يغلب عليه تفسير ديني معيّن يربط بين اليهودية من جهة وبين اليهودية والشرّ من جهة أخرى. ساد فهم للقرار على انه إقرار من الأمم المتحدة بأنّ اليهودية عنصرية. أخذ البحث في القرار، وهو علماني بالمطلق، بعيد بالكلية عن ايّ متضمّن ديني، مبني بالكلية على أسس علم الاستعمار الاستيطاني، أخذ البحث فيه، لدى البعض العربي والإسلامي، بعداً دينياً وظفته «إسرائيل» في محاولاتها لإلغائه، وقد نجحت.

غاب الفكر العربي الخلاق، وتسبّب غيابه في عدم تحصين القرار من الإلغاء.

انظر الى ما صدر عن كليات الحقوق العربية دعماً للقرار الاخطر في تاريخ الصهيونية. بالكاد تعثر على ذكر له.

انظر الى الخطة الشاملة للثقافة العربية بالأف صفحاتها. تجدها خالية من التطرق الى العنصرية الصهيونية.

الا انّ للاستعمار الاستيطاني قوامه. فلنعد الى جوهر البحث وهو السؤال عن مستقبل «إسرائيل» بمقتضى علم الاستعمار الاستيطاني.

الإجابة الحاسمة غائبة، وتلك هي طبيعة علم المستقبل في الدراسات الاجتماعية.

الا انّ بعض المؤشرات تدلّ على انّ مستقبل «إسرائيل» مهدّد بمقتضى علم الاستعمار الاستيطاني.

يأتي التهديد الأوضح من حقيقة انّ إسرائيل تمارس سيطرة على كتلة بشرية أكثر من نصف تعدادها فلسطينيون. وهذا النصف الى ازدياد لا الى تناقص. بهذا المعنى فانّ الحكم الإسرائيلي انما هو حكم أقلية على أكثرية. لن أدخل في تفاصيل الأرقام. قد لا يكون عدد الفلسطينيين قد بلغ النصف، لكنه قادم الى النصف واكثر. تلك حقيقة ثابتة.

والحقيقة الثابتة الثانية هي انّ التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي المحتلة مستمرّ ولا قدرة لأحد على ضبطه بما في ذلك الحكومة الاسرائيلية بالذات. هناك ولع إسرائيلي بالتوسع الاستيطاني تغذيه عاطفة دينية جامحة لا يرضيها الا قيام «إسرائيل الكبرى» ضمن ما يراه كثيرون حقاً تاريخياً لها من الفرات الى النيل. ادّت هذه العاطفة الى اغتيال رابين، كما أدّى اغتياله ليس الى انتكاس هذه العاطفة بل الى تأجيجها. منذ اغتيال رابين والسياسة الاسرائيلية تشهد مزيداً من تعمّق التطرف السياسي الصهيوني والديني اليهودي. يمارس المتحمّسون للاستيطان ولعهم رغم ما يسبّبه ذلك للحكومة الاسرائيلية من إزعاج دولي. ثم في خطوة تالية يتقدّم المتحمّسون فيحكمون. ثم ما تلبث جماعة أكثر تحمّساً للاستيطان ان تولد ثم ان تسيطر وهكذا دواليك في سلسلة تبدو كأنها دون نهاية. فإذا قلنا انّ في التوسع الاستيطاني الذي به احتفاء «إسرائيل» يكمن اختفاؤها مستقبلاً، فلن نجانب الحقيقة كثيراً.

أما الحقيقة الثابتة الثالثة فهي انّ العالم يبدو أكثر انزعاجاً من «إسرائيل» اليوم مما كان عليه أمس، وانه في الأرجح سيكون أكثر انزعاجاً منها غداً عما هو عليه اليوم. عنوان الانزعاج الراهن هو قرار مجلس الامن 2334 الصادر في 23 كاون الأول 2016، وعنوانه ايضاً قرار مجلس الأمن ثم قرار الجمعية العامة المتخذان بمناسبة نقل السفارة الأميركية الى القدس. وثمة عنوان ثالث للانزعاج العالمي وهو تصاعد قبول الدول لحملة مقاطعة إسرائيل المعروفة باسم البي دي اس.

وتبقى الحقيقة الرابعة الكبرى وخلاصتها انّ المقاومة الفلسطينية بأشكالها كافة حتى المسلحة منها ليست في طريقها الى الزوال بل هي في تصاعد مستمرّ. يستشهد كثير من الفلسطينيين بنيران الإسرائيليين، سلطة ومستوطنين، الا انّ ثمة قتلى كثراً ايضاً من المستوطنين. صحيح انّ بعض الحكومات العربية تتبادل التمثيل الدبلوماسي مع «إسرائيل»، وصحيح انّ افكاراً وشائعات عما يدعى بـ «صفقة العصر» يتمّ تداولها يومياً، الا انّ من الصحيح ايضاً انّ المشاعر العامة في البلاد العربية ما تزال مرتبطة بعواطفها العميقة في مناهضة «إسرائيل»، وما تزال الحكومات المطبّعة تشعر بجذوة العاطفة الشعبية المتوقدة وتحاذر مجاهرتها بخططها التطبيعية.

ويأتي يوم في شباط، هو العاشر منه، فيشهد نجاحاً عسكرياً سورياً بمواجهة الغطرسة العسكرية الإسرائيلية. تسقط المضادات والصواريخ السورية طائرة اسرائيلية متفوّقة. يشدّ ذلك من ساعد المقاومة وسواعد رافضي التطبيع.

هل تستطيع المؤشرات السابقة ان تحسم؟

الحسم مستحيل. يتقدّم جانب العلم في السياسة، الا انّ السياسة تبقى عملاً لا يمكن التنبّؤ الدقيق به في معظم الأحوال. انتهي عند الجملة السابقة المفتاحية، لكنني أوضحها بمثال هو من طبيعة بحث اليوم.

عام 2001 كان عام توترات كبرى.

بعد أيام من مؤتمر دربان لمناهضة العنصرية، وهو مؤتمر عزلت فيه أميركا و«إسرائيل» نتيجة إلحاح المنظمات غير الحكومية على ضرورة إعادة الاعتبار للقرار 3379، بعد أيام من ذلك المؤتمر كانت الأحداث الجرمية في أميركا، وابتدأ الرئيس بوش خوض معاركه العسكرية العدوانية بحجة محاربة الإرهاب.

من طبيعة الأحداث الكبرى انها توحي باقتراب الحسم، او تحبّب التفكير باقترابه. في أجواء توقع الأحداث الكبرى، يوم 20/10/2001، ألقيت في مركز زايد بالإمارات محاضرة عن مستقبل إسرائيل بمقتضى علم الاستعمار الاستيطاني. توقعت فيها أنه بعد عشرين عاماً سيكون عدد من تسيطر عليهم «إسرائيل» من الفلسطينيين والعرب اكبر من عدد سكانها من اليهود. اذن، ان لم تتفق دول العالم على انّ الصهيونية عنصرية، فما يستبطنه القرار 3379 من ايديولوجية يبقى موضع اجتهاد، فمن المحتم على دول العالم القبول بوصف «إسرائيل» بانها دولة عنصرية، لأنّ المعيار هنا موضوعي دقيق. تحالف موضوع المحاضرة، تحالف مع ظروف التفكير بالأمور الكبرى في وقت متوتر، كما تحالف مع السلطة الأدبية لمركز زايد، فإذا بالمحاضرة تظهر عنواناً كبيراً في عدد لا يحصى من وسائل الإعلام في الإمارات والسعودية وربما في غيرهما من دول الخليج. وانهالت عليّ الدعوات لتقديم المحاضرة الشفهية ذاتها وكانت منها واحدة من جامعة البعث في حمص. ومع توالي الأيام، ذبلت الورود كما هو معهود. ثم فوجئ العالم بجديد في هذا الموضوع أواخر ايلول 2012.

يوم 24/9/2012 ظهر في «نيويورك بوست»، اليومية الأميركية، تصريح لهنري كيسينجر يتنبّأ به انّ إسرائيل ستزول في عشر سنوات.

In ten years, there will be no more Israel.

أثار التعليق لغطاً وتصحيحاً وما أشبه. إلا انه أعادني الى محاضرة مركز زايد الذي ضغطت أميركا على حكومة الإمارات فاغلقته عام 2005 لأنه قدّم تفسيراً لأحداث ايلول يخالف النظرة الرسمية الأميركية لتلك الأحداث.

نشرت مقالاً ظهر في جريدة «البعث» السورية 26/7/2013 وفي جريدة «الديار» اللبنانية 1/ 8/ 2013 عنوانه: «مستقبل إسرائيل بين الحتميات اللاهوتية وعلم الاستعمار الاستيطاني وتفاعلات السياسة الدولية».

وفي ذلك المقال أخذت حذري. خففت من قدرة علم الاستعمار الاستيطاني على التنبّؤ. بل من قدرة العلوم الاجتماعية كلها على التنبّؤ. كنا في سورية منذ عام 2011 ولا نزال بين حدّين. حدّ نضج الداخل للتغيير، وحدّ مؤامرة الخارج الهادفة لرسم خريطة هويات جديدة في المنطقة. من كان يخطر في باله عام 2001 اننا مقبلون على انقلاب شامل في المشهد السوري؟ ذلك هو المجهول الذي ضاعفت اسهمه في رسم المستقبل، تحت عنوان» تفاعلات السياسة الدولية». يظهر التحفظ نفسه هنا تحت عنوان:» الاحتمالات السياسية».

ويبقى علم الاستعمار الاستيطاني أكثر قدرة على التنبّؤ بالمستقبل من الحتميات اللاهوتية ومن تفاعلات السياسة الدولية. ويبقى انّ هذا العلم يشير بوضوح الى انّ «إسرائيل» تسير في طريق غير آمن ليس لأنه يخالف المثل العليا الراهنة للبشرية فحسب، بل لأن معادلات القوة على الأرض تخضع لتغييرات عميقة.

خامساً: الأمم المتحدة والاستعمار الاستيطاني

من شرعة حقوق الإنسان إلى قرار الجمعية العامة رقم 3379 الى قرار مجلس الامن رقم 2334: كانت للتنظيم الدولي بداية مخزية أخلاقياً مع الاستعمار الاستيطاني. دولة استيطانية آنذاك، قوامها التمييز العنصري، وهي اتحاد جنوب أفريقيا، مؤسس لعصبة الأمم، وطليعة في عداد مقترحي نظام الانتداب، بل وممارسة لصلاحيات انتدابية على جنوب غرب أفريقيا. وعصبة الأمم، التي كان للرئيس ولسون، صاحب فكرة حق الشعوب في تقرير مصيرها ـ وقد سبقته الى ذلك الثورة البلشفية، كما هو معلوم ولكن على نطاق ضيق ـ عصبة الامم وللرئيس ولسون اليد الطولى في إنشائها، هذه العصبة ـ وهي الشكل الاوّل للتنظيم السياسي العالمي ـ تبنّت رسمياً في عام 1922 صكّ انتداب على فلسطين جعل منها شركة استعمار استيطاني مكلفة دولياً بجلب المستوطنين الى فلسطين، جلباً يؤول بحكم المنطق الى إخراج السكان الأصليين منها. ورثت عصبة الأمم وورث معها القيّمون على الانتداب دور سيسيل رودوس، أبشع استعماري استيطاني عرفته العصور الحديثة.

أما الأمم المتحدة فقد ورثت دور العصبة. لم تعِد النظر في صكّ الانتداب لتحكم عليه بالبطلان بقتضى معيار الميثاق الذي يحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها. ورثت وتابعت التنفيذ، فكان قرار تقسيم فلسطين في 29/11/1947 والذي أصبح في وقت لاحق ـ ويا للأسف ـ اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وتتالت قرارات بعضها ظالم جداً كقبول «إسرائيل» في الامم المتحدة، وبعضها أقلّ ظلماً، وبعضها معتدل، ولن أخوض في التفاصيل.

منذ احتلال «إسرائيل» للضفة الغربية وغيرها ولدت ظاهرة جديدة هي الاستيطان على أراض يعرّفها القانون الدولي بانها واقعة تحت الاحتلال. وفي العام التالي للاحتلال احتفى العالم بالذكرى العشرين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الانسان وأعلنه عاماً لحقوق الانسان. رسّخ ذلك العام ما أصبح يُعرف بشرعة حقوق الإنسان وأولها العهدان، وأول العهدين حق الشعوب في تقرير مصيرها. وكان من الطبيعي منذ ذلك العام ان يصيب فلسطين من العدالة نتيجة ذلك نصيب اكبر ما اصابها في اعوام سابقة. وهكذا تقدّم اهتمام الجمعية العامة من الانشغال بالسكان المدنيين تحت الاحتلال الى رصد ما يعنيه إنشاء المستوطنات من انتهاك للقانون لدولي وصولاً الى النظر في طبيعة الصهيونية. بلغ هذا التقدّم مداه في 10/11/ 1975 بصدور القرار 3379 عن الجمعية العامة وبه قرّرت انّ الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. بهذا القرار الخطير بدت الأمم المتحدة كأنها نزعت الشرعية عن «إسرائيل».

ومن المفيد هنا التذكير بان القرار المذكور انما يصف الصهيونية بالعنصرية اعتماداً على جوهرها كايديولوجية استعمار استيطاني، وليس على أساس ارتباطها باليهودية. ويسرّني في هذا المعرض استعادة ما قاله لي السيد جها، نائب مندوب الهند الى الأمم المتحدة اذذاك وهو صديق قديم، من انّ كتابي عن الاستعمار الاستيطاني انما هو والد القرار المذكور.

ثم اننا نعلم ما نعلم عن مسيرة القرار 3379. مزّقه مندوب «إسرائيل» لدى الامم المتحدة في جلسة إقراره، وتعهّد بحمل الهيئة المصدرة له على إلغائه في غد غير بعيد، ونجح التعهّد عام 1991. ألغي القرار في حمى الحماسة العربية لبلوغ سلم مع «إسرائيل» بعناية أميركية فائقة. ولنلاحظ أمرين: أسّس عدد من المثقفين العرب في دمشق، عام 1986، لجنة برئاستي لدعم القرار. لم تمدّ أيه حكومة او هيئة عربية يد المعونة للجنة. ذلك هو الأمر الأول. اما الأمر الثاني فتوضحه الوثائق الرسمية السورية بشأن مؤتمر مدريد، كما عرضتها الدكتورة بثينة شعبان في كتابها الشهير: «عشرة أعوام مع الرئيس حافظ الأسد». توضح الوثائق انّ المندوب السوري لم يدافع عن القرار حين استهزأ به المندوب الإسرائيلي في إحدى جلسات المحادثات. اعتبر المندوب السوري انّ القرار الوحيد الذي يجب بحثه هو القرار 242.

أنتج مؤتمر مدريد اتفاقية أوسلو، وانتجت الاتفاقية مزيداً من الاستيطان. ولا بدّ لللاستيطان المتوسع الا ان يعود بنا الى جوهر الصهيونية الذي تنبثق منه العنصرية بالبداهة. من هنا كان القول الذي كثيراً ما يتردّد في أيامنا هذه من قبل بعض الصهاينة من انّ القرار الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية إنما هو واجب الاتخاذ اليوم أكثر مما كان عليه الحال عام 1975.

إلا انّ هذا الواجب ما يزال خارج نطاق المتداول الدبلوماسي الراهن وقت الكتابة. أيامنا هذه لقرار مجلس الأمن 2334 الصادر في 23/12/2016، أواخر أيام الرئيس أوباما. القرار خطير لأنه يطلب من «إسرائيل» وبكلّ جلاء الانسحاب من كافة الأراضي المحتلة عام 1967، وإزالة المستوطنات جميعها. القراءة الجادّة للقرار توضح انه بخطورته على مستقبل اسرائيل يضاهي القرار 3379. ومن المتوقع ان تحاول الصهيونية الحدّ من أثره او حتى الغاءه. وقد تصاعدت لدى إصداره أصوات بهذا المعنى. السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هنا: اليس من المناسب ان يعمد المهتمّون الى إعادة تجربة اللجنة العربية لدعم القرار 3379 مع الاهتمام الخاص بتوفير عناصر نجاح لها اكثر مما توفر للجنة التي احدثت عام 1986؟

كان يستحب لعام 2017، وهو عام الذكرى المئوية لصدور تصريح بلفور، كان يستحب له ان يكون عام توحيد عربي يستعيد المواقف الرسمية العربية الأولى من قضية فلسطين. لم يحصل. في جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ابتدأت في ايلول عام 2017، عام مئوية تصريح بلفور، لم يتحدث عن التصريح الا الفلسطينيون، رغم نداءات متكرّرة من هيئات المجتمع المدني العربية للاستفادة من تلك المناسية وفي طليعة هذه الهيئات الرابطة السورية للأمم المتحدة. قد يكون انّ العرب اكتفوا عام 2017 بما أنجز عام 2016، ايّ بالقرار 2334. الا انّ القراءة الادقّ للحالة العربية تظهر انخفاض مستوى الانشغال العربي الرسمي بقضية فلسطين، وانّ هذا الانخفاض ينسحب على الانشغال العربي غير الحكومي، مقابل مزيد من الانشغال العالمي بها.

ومن الواضح انّ الصهيونية قرات بدقة الحالة العربية فاستثمرتها عن طريق الرئاسة الأميركية. في الايام الاولى من عام 2018 أصدر الرئيس الأميركي قراره بنقل السفارة الأميركية الى القدس. أما أكثر ردود الفعل جدوى على القرار الأميركي فلم تأت بعمل مباشر من الدول العربية، بل بعمل غير مباشر منها ومن غيرها معاً، تجسّد في وقفتين ممتازتين من مجلس الأمن ومن الجمعية العامة.

في عام 1922 تحلّ مئوية صكّ الانتداب على فلسطين. الاستيطان الذي اعتبره الصكّ عملاً حضارياً يقضي به التقدّم، أصبح عملاً جرمياً لأنه تجاوز حدوده. منذ الآن ينبغي ان يبدأ العمل لكي يقف التنظيم الدولي وقفة جادة مع الصكّ ليحاكمه. أصبح من الواضح اليوم، وعبر العديد من التجارب المؤلمة، انّ الاستيطان، ومهما كانت دوافعه وأساليبه، انما هو تأسيس للعنصرية التي يعتبر القضاء عليها فكرياً والى حدّ كبير: عملياً أهمّ معلم من معالم نجاح التنظيم الدولي.

سادساً: نظرة ختامية

منذ ولدت «إسرائيل» وسؤال المستقبل يلاحقها. وإذا كانت الأسطر السابقة أوضحت بجلاء حدود علم المستقبل، إلا انّ المتابعة البحثية لما يمكن التحقق منه مما يدخل في نطاق علم المستقبل امر يظلّ الإقبال عليه مفيداً، والمتابعة فيه ضرورية. وللمتابعة، ويهمّني منها بالذات تلك التي تقود الى العدالة، أساليب متعددة.

الأسلوب الأقوم هو اسئتناف الجهد الذي وجه الى بذله رئيس الجمهورية العربية السورية ووافقت عليه الدول العربية وجوهره إحداث مؤسسة لدراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن. في صفحات كتابي: «مذكرات الى رئيس مجلس الوزراء السوري: 1989» صفحات مطوّلة عن انشغال بالموضوع.

وثمة بعد ثلاثة أساليب ترد الى الذهن وقت الكتابة، يسهل اعتمادها من قبل باحث فرد او من قبل مجموعة او مجموعات بحثية تطوّعية. اسلوب أول اساسه متابعة الادبيات الباحثة في مستقبل إسرائيل: جمعاً وتدقيقاً ومناقشة وإغناء ونشراً. من هذا القبيل كتاب هامّ ألفه الباحث الدكتور تامر مير مصطفى عنوانه: «زوال إسرائيل: النبوءة الأخيرة». بيروت، دار المحجة البيضاء، 2013، 415 صفحة . لم اطلع على هذا الكتاب إلا مؤخراً. يزخر الكتاب بدراسات قيمة عن الاستعمار الاستيطاني في أميركا. كما يحفل بتوثيق ممتاز عن التنبّؤات بزوال إسرائيل من منطلق اقرب الى الديني. ومع انني كما بيّنت اعلاه متحفظ على هذا المنطلق إلا انّ الاحاطة به واجبة.

أما الاسلوب الثاني فيتحالف مع المستقبل القريب لاثارة الاهتمام. وهذا ما حاولته حين اطلقت، متأثراً بمؤتمر دربان وبدءاً من عام 2002، مبادرة ضرورة المطالبة باعتذار عن تصريح بلفور. تطوّرت هذه المبادرة لاحقاً، وبفضل الرابطة السورية للأمم المتحدة، الى ضرورة الاهتمام بمئوية تصريح بلفور، ونجحت في ذلك الى حدّ لا بأس به. أقترح ان نتحالف مع مئوية التنظيم الدولي التي تبدأ في عام 1919، ومع مئوية صكّ الانتداب التي تبدأ في عام 1922. وسيكون من المنطقي النجاح في إعلان الصك باطلاً، إذا تمّت الأمور بمنطقية أولها حسن التعاون بين الجهات المعنية.

وأخيراً فانّ الأسلوب الثالث يتجسّد في تطوير تجربة كان لها حظها في النجاح، قام بها عام 1986 مثقفون مقيمون في دمشق، وأساسها دعم القرار 3379. القرار المطلوب دعمه اليوم، بل والإسهام في تنفيذه، هو قرار مجلس الأمن رقم 2334. تحسن مطالبة الجمعية العامة للأمم المتحدة بإعلان يوم صدور القرار يوماً عالمياً لمناهضة الاستيطان. بل وأفضل من موعد يوم صدور القرار يوم آخر هو الثاني من الشهر الحادي عشر، وبه عام 1917 صدر تصريح بلفور. من يطالب؟ مجموعة تطوّعية من القانونيين وعلماء السياسة والمهتمّين بالشأن العام تطلق على نفسها اسم «لجنة دعم القرار 2334».

drjabbour gmail.com

رئيس الرابطة السورية للامم المتحدة،

رئيس الجمعية السورية للعلوم السياسية قيد التأسيس

وسابقاً: مستشار رئاسي وعضو مجلس الشعب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى