الخصوصية ويوتوبيا الأهواء

رشيد المومني

انسجاماً مع استراتيجيتها الكونية، توحي الحداثة بانفتاحها على خصوصيات هوامشها، كما توحي بتأمينها لفرص التفاعل المشترك والعام بين مختلف الشعوب، وهو مشروع سيظل إنجازه مؤجلاً باستمرار، بفعل استشراء التوترات العاصفة تباعاً بينها وبين هذه الخصوصيات، على خلفية ما يكتنفهما من التباس دلالي كبير، سواء لدى المختصين أو الملاحظين، حيث لن يكون من السهل تلمس الحدود الفاصلة بين آليات اشتغالهما، فضلاً عن تواضع فعالية التقنيات الإجرائية المتوافرة لدى الباحثين، التي لا تسمح بالبث في صلاحية هذه التقنيات، أو الحسم في ترجيح الاختيارات الثقافية والمجتمعية، التي على ضوئها يمكن تحقيق التناغم المنشود بين الذات ومحيطها، وكلها عوامل من شأنها إرباك حركية السؤال، والإيقاع بها في أتون تخبط أهوج، تتشابك فيه تفريعات المفاهيم، مع تقاطعات القناعات والتصورات، وهو ما يحرف بشكل قد يكون جذرياً.

المسار الطبيعي لكل من الحداثة ذات الطابع الكوني والخصوصية المقننة بشروطها المحلية، ويحولهما معاً إلى أداتي هدم، بدل أن تكونا أداتي بناء، لا سيما وأن فكرة الخصوصية، تظل جدغائمة، وغير قابلة للتأطير بفعل خضوعها لسلطة استهلاك اختزالي، يسجنها في مقولات مدرسية، كما لو أن الأمر يتعلق بتقديم وجبةٍ عالمية مسجلة بمواصفات ثابتة، ومُعَدَّة للاستهلاك العام، في مختلف مطاعم العالم، على غرار أغلب المنهجيات التعميمية، التي تأخذ على عاتقها مسؤولية صهر الإشكاليات الكونية، وسبك مادتها في قوالب مسكوكة، من أجل تسويقها عالمياً، عبر تسهيل مسطرة تداولها، بطريقة مبسطة لا تحتاج بالضرورة لأي مجهود فكري أو علمي، كي تتحول الخصوصية في نهاية المطاف، إلى عُمْلة سائرة في أكثر من سوق، من ذلك مثلاً خصوصية الكتابة الإبداعية، وخصوصية المعمار، وخصوصية ترقيص الروح في المآتم والأفراح، فضلاً عن خصوصيات مغادرة الحمام، وطاعة أولي الأمر، وخصوصيات التعتيم على المدافن الجماعية، ونهب المال العام، مع التذكير بضرورة استيعاب أنساقها ضمن صيغة الجمع، الذي يعني احتمال حضور تعددٍ لا حصر له في التوصيف الواحد، وهي بعض من الخلاصات التي تظل غائبة لدى الكثير من المقاربات الاحترافية، التي تتعامل على سبيل المثال لا الحصر مع خصوصية التراث، بوصفه درباً يمتد في خط مستقيم وأحادي البعد، ومكشوف من حيث حدودُه، وقِيَمه إنْ على مستوى التنظير، أو الممارسة، وهو تصور ينسحب على كافة المنهجيات التبسيطية، التي تحرص على إشراك العامة في التعاطي مع القضايا الفكرية، أو الاجتماعية، عبر تطويع ما غمض منها، لتكون موضوع إجماع، وقابلة للتداول بين قطاعات وشرائح اجتماعية واسعة، باعتبار أن المنهجية التبسيطية، تساهم عملياً في طمس كافة أسباب الخلاف والاختلاف، عبر توخيها حذف مختلف العناصر التي من شأنها إحداث حالات من سوء الفهم، والمؤثرة سلباً على مرونة وسلاسة عملية التواصل، مع الأخذ بعين الاعتبار، التداعيات السلبية لهذا الحذف، الذي يمكن أن يشمل حتى العناصر الأكثر أهمية في السياق، باعتباره سلوكاً تحريفياً، يتعذر على الملاحظ معه صرف الانتباه عن خطورته، الفاعلة حتماً في تشويه جوهر الموضوع، بمعنى أن عملية الحذف المعتمدة في تحقيق امتياز التعميم، قد تضعنا أمام بنيات وأنساق مغايرة، لا علاقة لها بالبنيات والأنساق الفعلية، التي تتمحور حولها أسئلة المقاربة، واستفسارات النقاش، فلا تبقى ثمة أي علاقة موضوعية وجدلية، بالإطار الذي كان سبباً مباشراً في إطلاق شرارتهما الأولى، بفعل تخلص الهاجس التعميمي من الإشكاليات الأساسية التي تبدو من وجهة نظره معقدة، وعائقاً حقيقياً يؤثر سلباً على للتواصل السهل والمرن، والحائل دون تحقيق مكسب الإجماع، لأن الخوض في الإشكاليات النظرية، ومن ضمنها سؤال الخصوصية، يستدعي حضور قابلية متميزة للإنصات إلى الآخر، واستعداداً عقلانياً للجدل، وتقليب القول والرأي، وتفعيل لميكانيزمات المعرفة، الكفيلة بالتأطير الموضوعي لقضايا وبنيات، هي على درجة كبيرة من الانفلات والتحول، انسجاماً مع تعدد وجهات النظر، وتباين المرجعيات والمقصديات المتعاملة معها. ذلك أن أي تعثر يمكن أن يحدث في عملية التفاهم، قد يفضي مباشرة إلى سوء الفهم، الذي يساهم بشكل أو بآخر في توسيع الهوة بين الأطراف المعنية، أو على النقيض من ذلك، وبتأثير من المنهجية الاختزالية والتبسيطية، يمكن أن يغري بالإجماع على قضايا ثانوية، استَبعَدَتْ بشكل تام من مجالها، كل ما هو محوري، أساسي ومركزي، كما هو الشأن بالنسبة لمجموع المكونات المندرجة ضمن سؤال الخصوصية، التي دأبت على استقطاب خطابات لا علاقة لها بهذه المكونات، من ذلك أن أغلب الخطابات المعنية بانتقاد التوجهات التراثية، تلح على حشرها في جبهة مشتركة، بدون مراعاة ما يتخلل هذه الجبهة من اختلافات جذرية. والحال أن الناطقين باسم هذه التوجهات، لا يمثلون سوى استيهاماتهم، ولا يربطهم بالإشكاليات التراثية أو بغيرها أي سبب فكري أو نظري، لأنهم يتخذونها ذريعة للاحتماء بأوهام جبهة ما مشتركة، بدون أن تكون هذه الجبهة مستندة إلى أي رؤية نظرية، لأنها لا تعدو أن تكون جبهة مفككة سلفاً، بفعل تفاوت قدرات أعضائها في التأويل والفهم، حيث لكلٍّ وجهةُ نظرهِ المتعارضة كلياً مع وجهة نظر الآخر، ما يجعلنا أمام أحكام وتخريجات ساذجة لخصوصية التراث، التي لا تلبث أن تتبخر حال تجاوزنا لإطارها النظري، إلى الممارسة الفعلية، أي أن تأثيرها يختفي تماماً، ولا يبقى ثمة سوى عنف الواقع، وسلطته وإملاءاته. إن هذه التحصيلات الساذجة ذاتها والتيسيرية، تجد ضالتها في ما يمكن نعته بخصوصية المنابر والفضاءات الدينية، حيث تتيح الطقوس الرسمية والشعبوية في آن، إمكانية تضخم ما هو سطحي وثانوي، على حساب ما هو جوهري.

وفي تصورنا، إن الباحث مطالب بإبراز هذه المفارقة، من خلال تركيزه على قوانين المحو المشتغلة على الواقع، وأيضاً من خلال تساؤله المنهجي عمن يمحو، وعما ينمحي؟ وعن هوية المستفيدين من الفعل ونقيضه، بصرف النظر إن كان الأمر يتعلق بحداثة تمتلك مبرراتها الموضوعية، أو بأخرى هجينة، ومتهافتة، ونفس الشيء بالنسبة للخصوصية.فالذات العربية تنكتب وتنمحي على ضوء هذه المفارقات، كما أنها تعاني من عنف الحداثة، قدر معاناتها من عنف الخصوصية ومشتقاتها. فهما معاً، يلتقيان في انعدام شروطهما الفعلية، إذ ليست هناك شروط حداثية محددة، معلنة وواضحة، لكن هناك أفكارمبتسرة حول الحداثة، حيث يتم اختزالها في قضايا سطحية، وجزئية وعابرة، وكلها تتعرض بشكل كلي إلى المحو من قبل واقع ثقافي، يتشكل هو أيضاً، من المفاهيم المبتسرة، ومن الإكراهات الخرقاء، المراوحة بين أزمنة هي على درجة كبيرة من الالتباس.

ومما لا مراء فيه، أن الواقع المعيش، يتشكل من صلب هذه الأزمنة المعقدة، التي يمكن القول، إنها تتأسس على ثلاثة أبعاد، هي البعد التراثي والبعد الحداثي بما يعانيانه من تشوهات وتقرحات، بفعل سوء الفهم، وسوء الاستيعاب، فضلاً عن البعد المتشكل من الإكراهات الظرفية التي يتقاذفنا بها الواقع، والتي بموجبها تتم تلك التفاعلات المعقدة التي تؤدي إلى إنتاج واقع محايث/مضاد، يتجاوز إرادة الرؤية المحافظة، وإرادة الرؤية الحداثية الخالصة. إن بُعد الإكراهات الذي تواجهه المجتمعاتُ بردود أفعالها المتحفظة أو الغاضبة، يكون هو أيضاً مستمداً من قلب هذا التعارض، الذي يتفاعل فيه تراث منقطع الصلة عن الأصل، وحداثة مكيفة بالوعي الاجتماعي العفوي والتلقائي. فهذه التفاعلات الثلاثية، هي التي تتدخل في صياغة الهوية، وفي صياغة الإيقاع العام للذهنية الاجتماعية والثقافية والسلوكية في لحظة تاريخية معطاة، وبالتالي، فإن من ينادون بالحداثة، يعتقدون بأنها قالب جاهز يمكن موضعة جسد الكائن وروحه فيه، والحال أن الحداثة ممارسة مستندة إلى حدها المعرفة والحضاري، وهو ما يجعلها بدورها متعددة متباينة ومختلفة، وفي هذا السياق، لا مناص من إدراج حداثتنا ضمن حداثة مسكونة بخصوصيتها الملتبسة، هي نتاج تراث هجين، متعدد التأويلات، وواقع محفوف بمفارقاته وتعمياته.

ومن المؤكد، أن الواقع الذي نحن بصدده، يتشكل من صلب هذه الاعتبارات الشائكة، حيث يفضي تنابذ خصوصية أصولية الأهواء مع حداثة هجينة، إلى إنتاج تفاعل سلبي، في خضم واقع مأزوم، وعاجز عن استيعاب حدة شططهما، وكلها حيثيات تتدخل في صياغة الخطوط العريضة لهوية مُهَجَّنة الأبعاد. وبالتالي، فإن التيارات التبسيطية المتحمسة لأنوار الحداثة، تعتقد بأنها مجرد قالب جاهز، يمكن وضع الكائن فيه. فيما الحداثة ممارسة مستندة إلى حدها المعرفي والحضاري، المحتكم إلى نور عقل، واع بمقالب ميتافيزيقا الأهواء.

أكاديميّ وأديب مغربيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى