الرقصُ على حافة الهاوية في عفرين السورية…

د. وفيق إبراهيم

يجسّد الصراع العسكري بين الجيش التركي الذي يحاول منذ أكثر من شهر احتلال منطقة عفرين وبين وحدات كردية مدعومة أميركياً تدافع عنها، نموذجاً للصراع على سورية بين قوى دولية وإقليمية تستعملُ أدوات داخلية في معاركها.

فعفرين المنطقة السورية التي يسكنها سوريون من الأكراد والعرب، وقعت منذ 2012 على خط الإمداد التركي ـ الغربي ـ الخليجي للمنظمات الإرهابية في الداخل السوري، لكن سقوط المشاريع التركية المتعدّدة في سورية والعراق، المتسربلة بالإخوان المسلمين حيناً والعثمانية حيناً آخر، دفع بالأميركيين إلى استخدام عفرين جزءاً من مشروع تفتيت سورية على كانتونات متناقضة على أسس عرقية ومذهبية. وكان نصيب عفرين ان تؤدّي دوراً من خلال المشروع الأميركي الجديد الذاهب نحو السيطرة على شرق الفرات وربطه بمنطقة عفرين تحت راية كردية ترتكز على جيوبولتيك أميركي.

الدولة التركية بدورها جزء تاريخي من هذا الجيوبولتيك، بدليل القواعد الأميركية المباشرة أو التابعة لحلف الناتو المنتشرة على أراضيها… لكن أنقرة وجدت نفسها مرذولة من السياسة الأميركية في سورية والعراق بعد سقوط الحلقة «الاخوانية» من المشروع الأميركي في بلاد الشام والعراق، ولأنّ لكلّ دور لباسه الجديد… اعتمد الأميركيون الأكراد لبوساً جديداً لعب على الهوس الكردي التاريخي الحالم بكيان مستقلّ.

حاول الرئيس التركي أردوغان المقاومة… منتقلاً بحذر نحو حلف محدود الأهداف والأهمية مع الروس والإيرانيين يؤمّن له الجو الأدنى من أطماعه ويثير في آن معاً خوف الأميركيين، من احتمال خسارة تركيا..

هنا، تعمَّدت واشنطن سياسة اللامبالاة واستكملت مشروع بناء قوة كردية شرق الفرات السوري مع تموضع في بعض الأنحاء في شمال سورية التي يشكل الكرد غالبيتها.

فاستشعرت أنقرة برعب ذي طبيعة استراتيجية، على كيانها السياسي، لأنّ تشكل كانتون كردي في سورية، لن يتأخر في التمدّد نحو مناطقها الشرقية والقريبة منها حيث يبلغ عدد الأكراد فيها نحو 15 مليوناً يُمكن إضافة 5 ملايين كردي من الطائفة العلوية إليهم..

لذلك كان الهجوم العسكري التركي على عفرين بعد تأمينه موافقة روسية صامتة، مع غضّ طرف إيراني يحتج بليونة وعتب… وحدها الدولة السورية عرضت الدفاع عن عفرين مقابل تسلّمها المنطقة بشكل سياسي وإداري من الوحدات الكردية العاملة تحت العلم الأميركي، أدّى الرفض الكردي للطلب السوري إلى دخول الجيش التركي منطقة عفرين… وعلى الرغم من التقدّم التركي البطيء فإنّ واشنطن تصل ليلها بالنهار لإيجاد حلّ قبل خسارة ورقتها الكردية… التي تشكّل الورقة الأكثر أهمية في آليات نفوذها في سورية والعراق. فتبدو السياسة الأميركية حريصة على كردها من جهة والعلاقات التاريخية من جهة ثانية، مع تركيا في مواجهة الاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا حالياً. ومحاولة التوازن هذه تربك السياسة الأميركية وتتيح مجالاً واسعاً لحركتي السياستين الروسية والإيرانية نحو أنقرة.

ضمن هذه التجاذبات، تندرج زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى تركيا في جولته الشرق أوسطية، الذي حاول طمأنة أنقرة بوعود شفهية حول محدودية المشروع الكردي ودوره في تفتيت سورية من دون الإساءة على سلامة الدولة التركية، متناسياً انّ تركيا دولة عمرها قرابة الألف عام، أي موجودة قبل تشكل الولايات المتحدة بـ700 عام على الأقلّ، وهذا يعني مراكمتها خبرات في سياسات الدول وأهدافها في دعم قوى خارجية وطائفية، وتفكيك أعراق وقوميات. هذا كان اختصاص الدولة العثمانية التي تلاعبت بنصف العالم طيلة خمسة قرون.

لذلك استفاد الأتراك من زيارة تيلرسون معلنين أنهم بهجومهم على عفرين إنما يدافعون عن حدود حلف الناتو.. فإذا كان هذا الأمر صحيحاً، فما هو دور الأميركيين في دعم الكرد في عفرين التي يهاجمها حلفاؤهم الأتراك؟ أليس الناتو «مؤسسة أميركية» للسيطرة على العالم بأقنعة أوروبية وتركية؟

ولا يكتفي أردوغان عند هذا الحدّ، وقد يذهب نحو «صفقة دولية» تؤدّي إلى سيطرة الجيش السوري وروسيا على عفرين مقابل نشر قوات أميركية وتركية على منبج. فيحقق إخماداً كاملاً للمشروع الكردي من عفرين إلى حدود نهر الفرات مع المناطق الشرقية.

وعندما يتحقق هذا الأمر، يبدأ أردوغان بمفاوضة الأميركيين على واحد من عرضين:

إلغاء الوحدات الكردية وقوات «قسد»، واستبدالها بقوات سورية من «الجيش الحر» المزعوم وعشائر عربية وتنظيمات من تركمان سورية وأحرار الشام التركي الهوى. إلى جانب متطوّعين أكراد لا يحملون أعلام حزب الاتحاد الديمقراطي السوري الكردي أو حزب العمال الكردستاني الناشط في تركيا وله نفوذه في سورية والعراق.

إنّ مثل هذا الحلّ يعيد النفوذ التركي إلى الشمال والشرق السوريين إلى جانب الأميركيين موفّراً لهم خنقاً كاملاً لأحلام الكرد. هناك أيضاً طرح آخر يقبل به الأتراك ويتعلّق بسيطرتهم على طول حدودهم مع سورية بعمق كافٍ لإبعاد الكرد إلى داخل شرق الفرات نحو ستين إلى سبعين كيلومتراً فيتشكلُ ما تسمّيه العلوم السياسية «الولاية الحاجزة» أيّ التي تؤمّن الفصل الكامل بين مشروع سياسي وآخر. مؤدّياً إلى اقتصار دولة الكرد السوريين على مناطق في شرق الفرات بعيدة عن الحدود الكردية وبما يكفي لمنع الالتقاء السياسي بين كرد سوريين وأتراك.

إلا أنّ هذه الطروحات تصطدم بالكثير من العقبات، وأولها الدولة السورية صاحبة السيادة والقادرة على البدء بمعركة شرق الفرات لا سيما أن أسابيع قليلة تفصلها عن تحرير الغوطة الشرقية. وعندها تتمكّن القوات العربية السورية من الانتقال إلى شرق الفرات.

أما العقبة الثانية فهم الأكراد أنفسهم الذين دخلوا مرحلة اكتشاف التآمر عليهم. واستعمالهم مجرد أداة قابلة للاستهلاك في المشروع الأميركي، فما مصلحتهم بتكرار خطأ جديد يضاف إلى سلسلة أخطائهم التاريخية منذ بدايات القرن الماضي، عندما استخدمهم البريطانيون والسوفيات وشاه إيران في مشاريعهم متخلين عنهم في منتصف الطريق ببيعهم مقابل تسويات؟

لا شك في أنّ استيقاظ الكرد أو فريق منهم لم يعد بعيداً مقابل اتفاق مع الدولة السورية الشرعية على تمتّعهم بلامركزية موسّعة ولغة كردية حية في الاستعمال الرسمي إلى جانب اللغة العربية.

الروس من جهتهم، لن يقبعوا صامتين أمام تطوّر موقف أميركي ـ كردي في «شرق الفرات». ولديهم من المعالجات الكافية لنسف هذه الحلقات ألم يؤدّ تدخلهم من سورية بالتحالف مع دولتها وإيران وحزب الله إلى تحرير ثلث سورية والقضاء على الإرهاب، فسورية بالنسبة لموسكو هي نقطة العبور نحو احتلال موقع روسي في إنتاج القرار العالمي، أيّ كسر الأحادية الأميركية في التسلّط على العالم، وما اقتراح وزير الخارجية الروسي لافروف حول ضرورة التنسيق في العلاقات العالمية بين أربع قوى إلا الدليل على توثّب روسي لكسر احتكار القوة الأميركي على قاعدة الاعتراف بالأدوار الروسية والأميركية والصينية إلى جانب الاتحاد الأوروبي، وهذه المرة الأولى التي تكشف فيها موسكو عن رؤيتها المستقبلية لاحتكار القوة الجديد في العالم.

أما لجهة إيران وحزب الله، فهؤلاء هم الحلفاء الاستراتيجيون للدولة السورية على أساس دعم صمودها واستمرارها كآلية أساسية في الصراع في وجه النفوذ الأميركي والإرهاب. وهم بالتالي معها في كلّ حركاتها العسكرية والسياسية بشكل بنيوي واستراتيجي.

هذا هو إطار معركة عفرين بأبعاده الإقليمية والدولية والسورية.. والرهان معقود على صحوة كردية تتقاطع مع تنسيق روسي ـ إيراني مع الأتراك لضبط حركتهم في شمال سورية، يتبع لفريق واحد هو الدولة السورية.

أما مشاريع التقاسم الأميركية ـ التركية، في الشمال والشرق، فلن تكون إلا احتلالاً عثمانياً جديداً بالطربوش الأميركي، سرعان ما يقاتله السوريون عرباً وأكراداً مع حلفائهم.. كما فعلوا من الحرب العالمية الأولى عندما أنهت مقاوماتهم إمبراطورية عثمانية كانت واحدة من أقوى إمبراطوريات العالم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى