لماذا قفزت رواية الطيّب الصالح «موسم الهجرة إلى الشمال» إلى العالمية؟

نزار حسين راشد

«ثم قدّمني إلى زوجته. وفجأة أحسست بذراعَيّ المرأة تطوّقانني، وبشفتيها على خدّي. في تلك اللحظة، وأنا واقف على رصيف المحطة، وسط دوّامة من الأصوات والأحاسيس، وزندا المرأة ملتفّان حول عنقي، وفمها على خدّي، ورائحة جسمها، رائحة أوروبية غريبة، تدغدغ أنفي، وصدرها يلامس صدري، شعرت وأنا الصبيّ ابن 12 سنة بشهوة جنسية مبهمة لم أعرفها من قبل في حياتي، وأحسست كأن القاهرة، ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري، امرأة أوروبية، مثل مسز روبنسن تماماً، تطوّقني ذراعاها، يملأ عطرها ورائحة جسدها أنفي. كأن لو عينيها كلون القاهرة في ذهني، رمادياً، أخضر، يتحول بالليل إلى وميض كوميض اليراعة».

بعد تلك المقدّمة الطويلة، ورحلة طويلةٍ بالقطار، من الجنوب إلى الشمال، يوقفنا الطيّب الصالح في محطّته الأولى، ليضيء لنا لحظة اللقاء هذه، والتي رسمها كلحظة احتكاكٍ جسدي، ولّدت شرارة، محمّلة بالرمزية، وكأنها لقاء عالمين، انفتح أحدهما على الآخر! إّنها البوابة، التي عبر منها بطله مصطفى سعيد، إلى العالم الآخر، عالم الحضارة الأخرى. عبورٌ انتهى بمأساة، لقاحٌ لم يثمر إلا تراجيديا شخصيّة، حمل عبئها عائداً، بعد أن أعيته محاولات الخلاص، عبر لقاءاتٍ جسديّة حميمة، انتهت بانتحار زوجته، ومحاكمة تنازعت في بحرها القيم وتلاطمت، لتنتهي بحكم بالسجن، ليس كحكم يوسف عليه السلام الذي، أحجم عن الخطيئة، ولكنها محاكمة من اجترحها بكامل إرادته، لا بل شفعها باعترافٍ مجاني، مغلّفٍ بلا أبالية قاسية، كشف عنها في سيآق آخر:

«إذا جاءت ابنة أحدهم تقول له إنني سأتزوج هذا الرجل الأفريقي، فيحس حتماً بأن العالم ينهار تحت رجليه. ولكن كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه للمرّة الأولى في حياته. وأنا أحسّ تجاههم بنوع من التفوّق، فالاحتفال مقام أصلاً بسببي، وأنا فوق كل شيء مستعمر، إنني الدخيل الذي يجب أن يبتّ في أمره. حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة أتبرا، قال له: لماذا جئت بلدي لتخرب وتنهب؟ الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئاً. فليكن أيضاً ذلك شأني معهم. إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة.

وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود. وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف سنة. نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلاً. عطيل كان أكذوبة».

وإذن، فوجه الاستعمار بالنسبة إلى مصطفى سعيد مكشوف وقبيح، وهو يكنّ له ضغائن قديمة، والتلاقح الحضاري أكذوبة وعطيل أكذوبة كذلك!

وفي لحظة كشف يتماهى الراوي مع بطله مصطفى سعيد، وكأنه ينطق بلسانه:

الحب لا يفعل هذا. إنه الحقد. أنا حاقد وطالب ثأر وغريمي في الداخل ولا بد من مواجهته. ومع ذلك ما تزال في عقلي بقية تدرك سخرية الموقف. إنني أبتدئ من حيث انتهى مصطفى سعيد، إلا أنه على الأقل قد اختار وأنا لم أختر شيئاً. قرص الشمس ظل ساكناً فوق الأفق الغربي زمناً ثم اختفى على عجل. وجيوش الظلام المعسكرة أبداً غير بعيد وثبت في لحظة واحتلت الدنيا. لو أنني قلت لها الحقيقة لعلها لم تكن تفعل ما فعلت. خسرت الحرب لأنني لم أعلم ولم أختر. ووقفت زمناً طويلاً أمام باب الحديد. أنا الآن وحدي، لا مهرب لا ملاذ، لا ضمان. عالمي كان عريضاً في الخارج، الآن قد تقلص وارتد على أعقابه حتى صرت العالم أنا ولا عالم غيري. أين إذن الجذور الضاربة في القدم؟ أين ذكريات الموت والحياة؟ ماذا حدث للقافلة والقبيلة؟ أي راحت زغاريد عشرات الأعراس وفيضانات النيل وهبوب الريح صيفاً وشتاء.

الراوي هنا لا يحل العقدة بل يزيدها تأزيماً، إنه يحفر أعمق وأعمق، ليضعنا أخيراً في مواجهة الوهم، على الحافة تماماً:

«إيزابيلا سيمور قالت له: المسيحيون يقولون أن إلههم صلب ليحمل وزر خطاياهم. إنه إذن مات عبثاً. فما يسمونه الخطيئة ما هو إلا زفرة الاكتفاء بمعانقتك يا إله وثنيتي. أنت إلهي، ولا إله غيرك . لا بد أن هذا هو سبب انتحارها، وليس مرضها بالسرطان. كانت مؤمنة حين قابلته. كفرت بدينها وعبدت إلهاً. يا للغرابة. يا للسخرية. الإنسان لمجرد أنه خلق عند خط الاستواء، بعض المجانين يعتبرونه عبداً وبعضهم يعتبرونه إلهاً!».

ولكنّه وهمٌ أقوى من الحقيقة، وهمٌ يدفعنا من فوق الحافّة، إلى أحضان الكارثة، وهم يوصلنا إلى الموت والإنتحار، وفشل محاولات الخلاص! التناقض الذي لا يوصل إلى حل بين الغرب والشرق، الشمال والجنوب:

«وسمعت منصور يقول لرتشارد: لقد نقلتم إلينا مرض..

اقتصادكم الرأسمالي. ماذا أعطيتمونا غير حفنة من الشركات الاستعمارية نزفت دماءنا وما تزال؟ . وقال له رتشارد: كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا. كنت تشكون من الاستعمار، ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر. يبدو أن وجودنا، بشكل واضح أو مستتر، ضروري لكم كالماء والهواء . ولم يكونا غاضبين. كانا يقولان كلاماً مثل هذا ويضحكان على مرمى حجر من خط الاستواء، تفصل بينهما هوة تاريخية ليس لها قرار».

هذه هي ثيمة الرواية، والتي تطفو على لجّة من الأحداث والشخصيات، مشحونة بالتفاصيل، التي تشكّل ملامح البيئة، وتنفخ فيها الروح، وتبثّ في عروقها الحياة، لتجعل منها محيطاً زاخراً، يغرق فيه في النهاية مصطفى سعيد، منتحراً أو مغلوباً على أمره بقوة الفيضان، أو مستسلماً له ربّما، تاركاً وراءه مجتمعاً مكبّلاً بتقاليده المتخلّفة، القاسيّة، التي يهرب منها هو نفسه، إلى مصطبة يجتمع عليها رجال مع امرأة غير متحرّجة من غير ذوات الإربة بحكم تقدمها في السن، ليعاقروا الخمر ويخوضوا في الأحاديث المحرّمة، التي يطغى عليها حديث الجنس، حيث تروي بنت مجذوب تجاربها الجنسية مع أزواجها المتعددين، مسقطة حواجز الخجل والتورع، وكأنّ الراوي اصطنع هذا الميتافور، الّذي ربما لا يكون اكثر من تجربة ذهنيّة، ألبسها الراوي رداء الواقعيّة، ليتيح للقارئ فرصة المقارنة، مع التجارب الواقعيّة التي خاضها بطله مصطفى سعيد في الغرب، ثم غاب تاركاً زوجته ضحيّة لذلك المجتمع، الّذي فشل في طرح أغلاله عنه، إلا على مصطبة الوهم، وكأن هذا المصير الّذي ضفرت خيوطه تقاليد الجنوب الحجريّة، هو عقاب على خطاياه التي اجترحها في مجتمع الشمال المتحرر، وكأن كلا الطرفين الجنوب والشمال، يعيدان إنتاج المنتج ذاته، بأدواتهم المختلفة، البدائية والمتطورة!إنه الإنسان في مأزقه الحضاري، الّذي اخفق في صنع خلاصه!على طرفي الكرة!

وأظنه هذا هو السر، الذي جعل الغرب يتلقف هذه الرواية، فيحوّلها إلى فيلم سينمائيّ ويعرضها على مسارحه، إنها دراما تدغدغ مشاعره ومرآة تكشف عيوبه، أو تجعله يتحسس ملامح قناعه الّذي جمّله بترف الحضارة، ليضعه فوق وجهه الاستعماري القبيح!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى