الاندفاعة الاستعمارية الجديدة

د. رائد المصري

لن يستكين المستعمر الغربي وأدواته الإسرائيلية وحلفائه من العرب عن تنفيذ مشروعهم التقسيمي الذي بدأ يضغط باتجاهه في شمال سورية وشرقها، من خلال التّحشيد والدعم الغربي له والتحريض بزيارات لأمراء عرب في جولات مكوكية، تريد استنهاض حالة الإحباط واليأس الذي دبّ في مفاصل مشروعهم التكفيري، ولن يكون لبنان بمنأى عن كلّ هذه المخطّطات وهو على أبواب استحقاق نيابي سيُعاد معه رسم خريطة الشرق الأوسط الجديدة التي كانت ريشة التكفير إحدى أهمّ أدوارها وأدواتها، لتنتقل اليوم هذه الاندفاعة إلى ريشة الأكراد وبعض العرب الذين تجنّدهم الولايات المتحدة للدفع بهم مجدّداً من أجل توسيع دائرة نفوذ واشنطن في شمال سورية وشرقها، لتقويض الدور الإيراني وفصل العراق عن سورية والاستفراد مجدّداً بالعاصمة دمشق على طريقة جيش الإسلام في الغوطة الشرقية وحلفائه من النصرة وما تبقّى من تنظيم داعش الإرهابي….

سيناريو تنبّهت له موسكو وانتقدته على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، من أنّ واشنطن تسعى لتقسيم سورية والمنطقة. وهنا لا بدّ من القول إنّ زيارات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الى مصر وبريطانيا تأتي ضمن هذا الإطار من أجل الحصول على الدعم والتأييد مع دفع التكاليف التي تتكفّل بها السعودية، للمساهمة في إنشاء وتقوية جيش من الأكراد السوريين الذين ازدادوا قوة وعدداً وتسليحاً من كلّ أطراف الجزيرة السورية، وتمّ الدفع بهم الى عفرين لمواجهة القوات التركية، وكذلك جيش من عشائر العرب ملازم له على طريقة إنشاء الجيش الحرّ التركي، مؤلف من عشرات الآلاف من المسلحين والدفع بهم لاحتلال وتوسيع الدائرة الجغرافية في الشمال والشرق السوري وصولاً الى تخوم الحدود مع العراق، وكلّ ذلك بحماية ودعم السعودية و»إسرائيل» التي بدأت تدخل على خطّ الأزمة من بوابة كردستان العراق، والمساهمة كذلك بقوات بريطانية وبتغطية وموافقة مصرية أرادها بن سلمان في زيارته الأخيرة للقاهرة والتي استُقبل فيها استقبال الملوك والأمراء ورجالات الدولة…

الولايات المتحدة تطرح مبادراتها وترسم مخططاتها للمنطقة وتعتبرها ناجزة مع المفعول الرجعي، هي تعاطت مع الفلسطينيين والقدس ونقل السفارة على هذا الأساس. وهي بدأت بتنفيذ مشروع صفقة القرن وتتعاطى معه وبه على هذا الأساس، وترسم وتنفّذ المخطّطات التدميرية والتقسيمية لسورية كذلك وكأنها وسياساتها الاستعمارية قضاء وقدر على مصير شعوب المنطقة، منذ بدء وصول الموجات المتدفّقة لقطعان الاستيطان الصهاينة الى أرض فلسطين…

ولن يكون مصير تركيا إذا ما كتب لهذا المشروع الأميركي الجديد في المنطقة النجاح أفضل من دول الشرق الأوسط، فها هو أردوغان يطالب حلف الناتو بالتدخّل في سورية عسكرياً لنجدته، لأنّه تيقّن من حقيقة وقوعه في الوحل السوري، متناسياً أنّ مكانته في الحلف الأطلنتي تأتي في الدرجة العاشرة. فهذا حلف قام لحماية العنصر الأوروبي الأبيض ومنع التمدّد الإسلامي عبر تركيا الى أوروبا، ولتطويق روسيا واستخدام الأتراك كدرع واقية، ولن يمتثل لحماية تركيا بعد عبثها في دول المنطقة ورسم معالم شرق أوسط وإقليم جديد، لتلميذ تركي رسب في الامتحان الوظيفي للدور الاستعماري وفتح على حسابه الخاص…

بالتوازي تأتي أهمية الاستحقاق الانتخابي البرلماني في لبنان، وحجم هذه الاندفاعة السعودية ومن خلفها الأميركي في تدخل فاضح للشؤون الداخلية، بهدف تقويض ومنع حزب الله من الوصول لأغلبية نيابية أو أغلبية مريحة، تفتح له تكاملاً سياسياً واقتصادياً مع سورية وتستكمل جبهة المقاومة في خطٍّ عريض يصعب معه فرض الشروط الاستثمارية بالإرادة الغربية في النفط والغاز على سواحل سورية ولبنان وفلسطين وتكون «إسرائيل» خارجها. ومن هنا نفهم حجم هذا التدخّل من دون دفع الرشى الانتخابية، التي ينتظر مكرماتها بعض فتات 14 آذار الذين لم يستسلموا بعد لخط محور المقاومة وقدره في مواجهة المستعمر الغربي، حيث إنّ المملكة لا تريد تكرار تجربة دفع ملياري دولار أميركي في انتخابات 2009 وكانت نتيجتها فشل مشروعها السياسي وبقاء لبنان في دائرة العداء لـ«إسرائيل» وللمشروع الأميركي، لتدفع بعدها بقوّة التكفير وتفتيت سورية وحمايته على حدود لبنان الشرقية في إثارة واضحة لإطلاق الفتن المذهبية ومحاصرة المقاومة ومشروعها…

هذا الدخول السعودي بهذا الدفع والقوة على الساحة اللبنانية ستظهر بوادره في مقبل الأيام، حيث رأينا معالمه من خلال اكتشاف عبوة فارغة في بيروت من هنا، أو توتير جديد على خط الموقوفين الإسلاميين الإرهابيين في السجون اللبنانية والاعتصامات والتعدّيات وغيرها ممّا يمكن أن يخلّ بالأمن الاجتماعي… وأكثر ما يتجلّى ذلك هو الدخول على خطّ الحاضنة الشعبية للمقاومة في منطقة بعلبك الهرمل التي تعتبر خزانها الأساسي، فكلّ فعل سياسي اليوم لا ينسجم. وفي هذا التوقيت بالذات الذي ترتسم فيه معالم جديدة للمنطقة تريدها أميركا لنفسها لا يتناسق مع خط ونهج المقاومة، هو فعل مشبوه متآمر خادم للسفارات الغربية الاستعمارية حتى لا نقول للمشروع الإسرائيلي…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى