«ابنة الماء» إشراقة حامد… نذر النيل الأخير!

طلال مرتضى

كلّ هذا الثلج الفاقع البياض يا سيدتي، ليس ندف الملقى، بل كناية للصفاء.

لم نعتد بعد على رهج صمته المضمّخ بشغب أمانينا، كرمز بقيت ذكريات مدوّنة على رقم نواقيس اللهفة، التي عبرت ـ من دون وعي ـ على شريط العمر الذي انحدر نحو مفاز قفلته.

صباح الخير يا ابنة الأنهار، ها أنا أجلس الآن وحيداً أوّل سطر الكلام، تواً فتحت لي أمّي شرفة الوقت المطلّة إلى سهل اللغة، لم تنسَ حين قلت لها، إنّ تكويرة وجهكِ الأسمر تذكّرني برغيف الحنطة، الذي كنّا نتعارك من أجله أنا وأخوات كان، قبل أن يتدخّل حرّاس اللغة ليجعلوا من لبن الاشتهاء الحبر مضافاً إليه، على عين الجار المجرور بالوهم، عند نهاية جملة عابرة بهو الحكاية، أتت كاعتراض على الحالة، فقط خوفاً من الوقوع في إيهامات الشكّ. قلت لها: أمّاه، أسبت قصداً بنات أفكاري يرتعن هنا، وحين أومأت نحو الفراغ المستديم، ثمة سُمرة كانت على قيد اكتمالها، تلوّن خدود السماء، هناك بالفعل ركزت أصابعي التي نال منها خرس البرد في ليلة الحلم الفائتة. انظري… ما أبهاها وهي في طور معانقتها خطّ الفضاء الأول.

كانت حشريتي لئيمة حين قستُ الفراغ الفاصل بين آخر كلمة نهاية هذا السطر، وبين قوس وجهك الذي ينع على عجالة من أمره. بالعدد كانت المسافة لا تتعدى شبراً يتيماً على صدر المقال، لكن المجاز أبلغ حين صارت المسافة توازي طول رمح سمهري الحواف.

قالت: ألم ترها من قبل… كل يوم وعلى غير موعد، تدلف لتلبس بخيوطها الذهبية ظلمة شرفتنا وهج الضوء.. عهدي بها منذ أول تراب.

قلت: إنها إشراقة… إشراقة يا أمّي.

أمّي التي أدخلتها لجّة النصّ تواً، ليست هنا، تجلس هناك عند زيح إطار اللوحة البعيد، تركتها ترتّق ما تبقى من نسيج حكايات الجدّات، تنصت بإمعان إلى هديل اليمامات التي كلّ يوم تصطفّ كجوقة من دون مايسترو على سلك البرق، الذي أذاب رسام الصورة آخر تفاصيله عند التقاء جبلين. زعمت أمّي كما في أوّل المقال، وراءهما تنام وتستفيق كلّ يوم من سريرها الورديّ، كإشراقة يفتتح بها الفقراء خبز حضورهم.

هذا الصباح، يا «إشراقة» من دون كلل قرّرت المجيء إليك على أحرّ من الشعر. تخفّفت وهج حضورك وسلكت الطريق المؤدّية إلى «وادي الغلابة»، ثمة أفكار كانت تسري مع أول نهارات المعنى على ورق الشقاء. وعلى رغم انكسار حروفها بقيت تردّد ورددت معها ملئي: «السحاب من وادي وادي تلقى شال أفراحنا طافها… يسعد الناس التعابة… بكره يا وادي الغلابة».

لا أدري لما بقيت جملة عالقة على مشجب لساني، تهفهف براية الأمل، «يسعد الناس التعابة»، ولأن النهار كان مكتمل العطر وأنا أراقب من شرفة الكتاب كيف انطلقت بنات الأنهار نحو فواتح نشيد الحياة، استحضرت زاد تالٍ من بيوت سرّي، كي أفكّ به ريق السؤال، كإيحاء أسلك به درب المواربة بترديدي أغنية تالية تملأ نون نسوتهن من الأنا ما يكفي لعبوري كل حواجز القفلات، «أزور بيت الخياطة».

الطريق إلى ملقاك متلبدة وخشنة الممشى يا إشراقة… لا تضحكي عليَّ حين تكتشفين أني مسّدتها «بزيت الكرار»، زيت الكرار وقتها لم يكن بدعة، استطعت به إشعال قشّ أحلام البنات ـ وقتذاك ـ اللواتي لطالما أصابتني فتنتهن حين كنت أتسلّل لأملأ غرور مراهقتي وهنّ يغسلن الصوف على الفرات.

أواه يا إشراقة… هكذا بيدي وبفتنة الإيحاء، من الأعلى إلى الأسفل أستطيع استعادة رسم «بطّات أرجلهن» الساكبات بعطش الماء مثل قطع الرخام المرمري، الكاسيات بزغب الدراق.

بالفعل يا سيّدتي…

هكذا كنّ بنات الأنهار، «يصرعن ذي اللب حتى لا حراك به…». في ربيع الغربة الفائت جلست على ضفة المفارقة، قبل ملقانا بخمس قبلات وعناق يتيم، كي أرقب عن كثب كيف تطعن «الفييناويات» الفاقعات «الشقار»، كالسهام خاصرة الدانوب، بقي يزبد غثاؤه كالأهوج، مثل تنّين قطع رأسه على غفلة، من دون أن يكترث به أحد، لا حداء يعزّي روحه مثل أنهار البلاد، لا أميرات تُنذر له عندما يأتي وقت الطوفان أو الطمي، لا أدري كيف روّضوه يا سيدتي حتى صار مطية، لم تزل أنهارنا إلى ذي الحين عاصية. الفرق شاسع بين غزالات أنهارنا وأنهارهم، فعلى رغم زجاجية رسم «بطّات أرجلهن» هنا، لست أدري ما سرّ غلاء الرخام المتسجنجل في البلاد التي نهشّ بها بين الخراب.

هذا الصباح يا إشراقة… كسرت قيثارة مغناه، وتسلقت بكامل أهليتي سلم موسيقاها غير آبه بنشاز اللحن. كيف هذا، وأنا مثل إله منتصر توّي فتحت حكاية «ابنة الماء» على مصاريع الجريدة.

إشراقة حامد، أديبة وإعلامية سودانية ناشطة في حقوق الإنسان، ومقيمة في فيينا.

كاتب وشاعر سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى