مقامات الحبر الرومنسي… قيامة جديدة بـ«قلب مهزوم»

د. فايزة حلمي

منذ المطلع الأول للمجموعة الجديدة «قلب مهزوم» للكاتب حسام أبو العلا والتي صدرت عن «مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر»، نتلمّس أنّ الكاتب يحمل قلبه على كفّه ويوصّفه بأنّه مهزوم. أسلوب تقريريّ مباشر بقسوة الصدق ويكاد المتلقّي أن يستطعم مذاق بقايا مرارة قلب دامي الملامح، مثخن الجراح، قلب منهك القوى يحمله صاحبه بين كفّيه يخيّل لمن يقرأ العنوان أن هذا القلب من الهزيمة فاضت روحه إلى بارئها، فأضحى قلباً بلا قلب، لم؟ لأنه مهزوم.

بالعنوان لا يخف مبدعنا عن قارئه ما ينتظره، كان مباشراً وواضحاً وفي الصميم صوّب عنوانه لعقل وقلب متلقّيه في آنٍ، كأنّه أراد أن يؤلم متلقّيه ويصدمه في الصميم، تماماً كما هو موجوع في أعماق أعماقه. كأنّه أراد لقارئه أن يشعر بألمه ليتشاركاه أو ليتقاسماه معاً. لعلّه يأمل لو وزّع أو تشارك ألمه مع آلاف القرّاء أن يتخفّف ولو بنذر يسير منه.

يا لقسوة ما يحمله العنوان من معنى، لا يقبض على جمرته إلّا من اكتوى قلبه حتى أصبح مهزوماً، وبهذا العنوان أوقفنا كاتبنا من دون أن يجهر بطلبه دقيقة حداداً على هذا القلب المهزوم، حتى من دون أن نتبيّن بعد أسباب ذلك، فقط يكفينا أطلال النتيجة أن تكون «قلباً مهزوماً»، وبكارت الدعوة هذا المتّشح بالسواد حزناً على هذا القلب. دعانا كاتبنا إلى الدخول لتقديم واجب العزاء، لقد نجح مبدعنا في تجهيزنا للجوّ النفسي المقدمين على التدثّر به، ومهّد بأروقة عقولنا أفكاراً كدرب حتماً علينا ارتياده، وها نحن بصدد مصافحة أوّله دونما أيّ أضواء أو وعود باحتمالية بهجة. فقد كتب لنا على شاشة عقولنا الخاتمة قبل رؤية الفيلم، فهل أبعدنا ذلك عن حماستنا للبدء بمسيرة طريق نعرف مقدّماً نهايتها؟

لغرابة الأمر كان العنوان فاتحاً شهيّة حبّ الاستطلاع لدى قارئه، لمعرفة كيفية الأحداث التي أودت بحياة قلب وأردته هزيماً، ربّما ليتفادى القارئ ذلك في تجربة حياتيّة قد يتعرّض لها. أكان العنوان شراكاً خداعيّة لجذب القارئ، أم شدة صدق كاتبنا حتى لكأنّه ينقل أوجاعه للأوراق وعلى الملأ، لأنّه لم يعدّ يتحمّلها؟ لكي نجد إجابة لعلامة الاستفهام، علينا أن ندفع الباب الأول برفق وبعض حنان ونمضي على أطراف أصابعنا ومن دون صوت، ونقلّب الأوراق برفق حرصاً منّا على جراح القلب النازف انهزامية.

الإهداء

تجسيد للوجدان المتألّم، القابع داخل شرنقة الأحزان المحكمة النسج بكامل إرادة ويقين بانتهاء خطّ الحياة النابضة بالحياة، يقين بأنّ نبضات القلب مجمّدة عند لحظة فقدان الأم، تحتاج لدفء سحري لتتدفّق بالإحساس والمشاعر، «أذهب لقبرها لأستعيد دفء السنين»، فيذهب مبدعنا بخياله في رحلته إليها لتمسح أوجاعه وتفيض أنهار دموعه فتبرأ آلامه ولكن وهماً، لاعترافه بتشابه ملامح أيّامه، ويا لها من حياة بلا حياة لا طعم لا لون لها، «برحيلها تشابهت ملامح أيامي وسكن الحزن حنايا وجداني»، كأن الكاتب بهذا الإهداء حرص على وضع إطار محكم حول الصورة التي أبدعها لنا بالعنوان، فكان إطار الإهداء أكثر إبداعاً وألقى بضوء ساطع على ملامح الصورة فظهرت تفاصيلها، «إلى أمي الراحلة الباقية»، فيتوهّج عقل المتلقي وقلبه بنار الأحرف ومعانيها، فيتعطّش للارتواء بمعرفة تفاصيل مرويّة تهزم قلباً وتميت حياة.

وبخطى تصافح الأوراق بحذر، نقترب من الغيمة الفكرية التي أسدلها كاتبنا على مجموعته القصصيّة، لأنّه من مدلولات مسمّياتها المتنوّعة تنبئنا أنّها في أغلبها عن زمن مضى لكنّه ما زال يقظاً، وليست آنيّة الأحداث، لذا لنبدأ.

صندوق صور

تتدفّق الكلمات سريعاً، ويشعر بها المتلقّي تمرّ بتدفّقية كأطياف ذكرى، تماماً كما يشعر بها الكاتب وهو يسجّلها، لكأنّه يغمض عينيه لتعبر الأحداث التي يكتبها من ذاكرته من دون أن ترصد صورها، كشريط صور ماثل أمام ذاكرته بل موشومة بها كبصمة، لكنّه يخشى مثولها حيّة مجسّدة أمام ناظريه، لذا نشعر بشلّاليّة السرد، إنّه فقط أراد تسجيل الذكرى وحسب، دونما توقّف عندها، ولا تدبّر مفارقاتها، كفاه أنّه سبق وعاشها، بل ما زال معايشاً لها حتى الحين، وترك للمتلقي استخلاص عشرات المعاني والحِكم منها.

قد يصلح لها عنوان «الحياة لحظة»، كحياة الأمّ التي انتهت بغير توقّع ومن دون تمهيد مسبق، «على رغم أنّه لم تكن هناك أيّ مؤشّرات توحي بأنني على أعتاب كارثة». وأوضح لنا مبرّرات كون ما سيحدث في ما بعد بلحظة زمنيّة فارقة يعتبر بمثابة كارثة، «كنت وشقيقي الأصغر ننعم بدفء الأم وحنانها التي كانت تكرّس وقتها لنا».

وقد تصلح لها عناوين أخرى متنوّعة تعبّر عن تأخّر تحقيق الأمنيات لبعد فوات الفرصة المتاحة حيث تأخّر الأب في الاستجابة لمطلب الأم بشراء بيت جديد والذي تمّ لها ما أرادت بفارق توقيت، فقد قامت الأمّ بتجهيز منتقلاتهم كلّها إليه قبل وفاتها المفاجئ بأقلّ من أسبوع، «بدأت في الترتيب للانتقال إلى البيت الجديد وكانت تلملم كلّ صغيرة وكبيرة».

لكن كاتبنا اختار بالتحديد عنوان «صندوق صوَر» البصمة الموشومة رغماً بظلال قاتمة داخل أروقة عقله، لأن هذا الصندوق الفعلي لا الرمزيّ، فيه صور كلّ من آلموه من أشقاء أمّه التي كانت تعشقهم بصورة يرى كاتبنا أنّهم لا يستحقونها، «من فرّط هذا الحبّ كانت تضع صوَرهم في مراحل مختلفة من أعمارهم على جدران شقتنا»، «وأنا دائماً أراها صوَراً عديمة القيمة، لكنّها بالنسبة إلى أمّي بمثابة ثروة لا تقدّر بثمن»، وأوضح التناقض الكبير والهوّة المتّسعة بين حبّ الأمّ لأشقائها وكراهيّة الكاتب لهم خصوصاً أخيها الكبير، «كنت أكره اليوم الذي تصطحبني فيه لزيارة خالي، فلم أكن أشعر نحوه بالحبّ، كنت أطالبها بعد الزيارة بدقائق بالانصراف سريعاً». أمّا كلمات الأمّ: «لمّا تكبر بكره تعرف يعني إيه أخ»، حتى وهي تلفظ فجأة أنفاسها، «وأنا أستمع إلى صوتها الذي أصابه الوهن وهي تحمّلني أمانة العناية بشقيقي الصغير».

وكأن كاتبنا أراد بهذه القصة القصيرة في صفحاتها والكبيرة في مغزاها، أن تصل رسالته إلى أمّه حيثما كانت الآن بأعلى السماء في جنّة الرحمن بعد أن تركته وهو ما زال بعد صغيراً، بأنّه كبر ولم يعرف من أشقائها ما رصدته من معنى في صندوقها الضخم الثقيل الذي جمعت فيه كلّ صوَر أشقائها من على حوائط بيوتهم لتحملها إلى البيت الجديد، لأنّه «مرّت شهور بعد وفاة أمّي ولم يزرنا أحد من أشقّائها» وقول أبيه: «رفض خالك منحكم ميراثكم من والدتكم».

من هنا، وبمنظور «صندوق صوَر» كنموذج ليس المجال بمتّسع لتناول ما عداه، نجد أن القصص القصيرة التي أوردها مبدعها في مجموعته القصصية «قلب مهزوم»، بمثابة الأقفال المحكمة الغلق على ألغاز قابعة في مكمنها بأروقة وجدان كاتبنا وعقله، يحاول متلقّيها فكّ رموزها من ثنايا معاني مفرداتها الواردة بتراكيب الجمل التي أتقن مبدعنا صوغها، وكان دقيقاً في انتقاء السياق الذي توضع فيه كلّ منها، بسلاسة سردية تنبئ أصوات نبضات الحروف والكلمات بل وأضواء معانيها، أنها ما زالت تتمتّع بكامل حياة معاشة بحياة كاتبها.

وهنا يجدر بنا أن نتساءل عمّا إذا كانت هذه المراصد الكامنة في أعماق مبدع هذه المجموعة القصصية، قد أوصدت كاميراها عند هذه النقط الزمنية من عمره، عساه لا يعيش بقلب مهزوم بفقد أمانه واطمئنانه، عساه يجد من يعيد إليه نبضه المفقود، ليعيش حياة نابضة بالحياة.

مستشارة نفسيّة وتربوية/ مصر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى