الأكراد واستحالة قيام دولة الفانتازيا التاريخية…!

محمد ح. الحاج

كثيرة هي الكيانات وأشباه الدول التي قامت عبر التاريخ لخدمة أغراض قوة كبرى، أو مصالح استعمارية، ولم تقم أبداً على قاعدة تحقيق طموحات سكانها أو لأغراض حقوقية إنسانية أو مطالب شعبية، ما يعنينا في الأمر منطقتنا المشرقية، فإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين هي مشروع استعماري لخدمة مصالح الدولة البريطانية ومجموعة الدول الأوروبية المعروفة بتاريخها الاستعماري، وكذلك الدولتان الأردنية واللبنانية وأيضاً جمهورية هاتاي في لواء الاسكندرون 1937، ومثلها أيضاً جمهورية مهاباد 1946 – في أقصى الشمال الغربي الإيراني منتصف القرن الماضي، بعد أن توغل الجيش السوفياتي في تلك المنطقة وكان مبرّر جوزيف ستالين لهذا التوغل هو أنّ شاه إيران رضا بهلوي كان متعاطفاً مع أدولف هتلر. ونتيجة لهذا التوغل، هرب رضا بهلوي إلى المنفى وتمّ تنصيب ابنه محمد رضا بهلوي مكانه، ولكن الجيش السوفياتي استمرّ بالتوغل بعد أن كان يسيطر على بعض المناطق شمال إيران، وكان ستالين يطمح إلى توسيع نفوذ الاتحاد السوفياتي بصورة غير مباشرة عن طريق إقامة كيانات موالية له…

استغلّ بعض الأكراد في إيران هذه الفرصة وقام قاضي محمد مع مصطفى البرزاني بإعلان جمهورية مهاباد في 22 يناير 1946والتي لم تدم أكثر من أحد عشر شهراً، ونتيجة ضغوط مارسها الشاه على الولايات المتحدة الأميركية التي بدورها مارست ضغوطاً على الاتحاد السوفياتي انسحب الجيش الروسي وقام الشاه بالقضاء عليها وإعدام قادتها وعلى رأسهم قاضي محمد بينما فرّ مصطفى البرزاني ومقاتلوه باتجاه شمال العراق وعاشوا مع أبناء عشائرهم من الكرد في تلك المنطقة.

لم تمض سنوات على وجود الملا مصطفى البرزاني وأتباعه في الشمال العراقي حتى فرض نفسه زعيماً منافساً لزعماء عشائر الكرد هناك، وبالتأكيد لم تغفل عنه القوى الكبرى التي كانت تعمل لاستثمار أمثاله من القوى الطامحة للانفصال وإقامة كيان مستقلّ، ففي الستينات بدأ حركته الانفصالية بعد تشكيل قوة كبيرة وتمّ دعمه وتمويله خارجياً من أكثر من جهة كانت إحداها المملكة السعودية، وقد جاء اعتراف الملك فيصل في رسالته للرئيس جونسون بذلك الدعم عام 1966 في ذات الوقت الذي كان قادة الصهاينة في فلسطين المحتلة يساهمون بعمليات تدريب الضباط والمقاتلين إضافة لعمليات الإمداد بأنواع من الأسلحة ولم تنجح ثورته، بل ألحقت به القوات العراقية هزيمة ساحقة ولجأ إلى الجبال، وسجلت تلك الفترة تعاوناً بين الجيشين السوري والعراقي إضافة لدعم مصري استمرّ حتى قيام العدو الصهيوني بعدوان 1967 بدعم أميركي وبناء على طلب الملك فيصل الذي تعهّد بتعويض العدو الصهيوني عن خسائره، وكان هدف السعودية من الحرب انسحاب مصر من اليمن وإلحاق الهزيمة بها و… حتى لا يرفع جندي مصري رأسه خلف قناة السويس كما جاء في رسالة فيصل التي ورد ذكرها.

إنّ تجربتَيْ الزعامة الكردية في شمال غرب إيران، وفي الشمال العراقي لم تكونا كافيتين لإقناع الكرد بعقم محاولتهم، بل لم تؤثرا على زعامة العائلة البرزانية التي تأكد للجميع ارتباطها الصهيوني حتى أنّ الملا مصطفى كان يحمل رتبة جنرال في الجيش الصهيوني كما قيل، واستمرّ ابنه على نفس النهج رغم ما لحق بالكرد من تهم الخيانة الوطنية والعمالة ونعتهم بأنهم بندقية للإيجار !

سطحية التفكير والتحليل السياسي الخاطئ للقيادات الكردية المسيطرة على رأس الهرم لم تسمح بظهور تفكير استراتيجي عاقل ومدرك لمصلحة الكرد كمكوّن أساسي من المنطقة المشرقية في كلّ من الشام والعراق، وأنّ الانتشار الديمغرافي على مساحة البلدين لا تسمح بمجرد التفكير بقيام دولة مستقلة بسبب الموقع الجغرافي والتوزع، فإذا كانوا في الشمال العراقي أغلبية فإنهم في الشمال السوري ليسوا كذلك، وأنّ أغلب العائلات الكردية العريقة تنتشر في كلّ محافظات الشام وخصوصاً في دمشق وحماه وحلب وهؤلاء مندمجون تماماً مع باقي أطياف النسيج السوري وكان منهم قيادات تاريخية وصولاً إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء والقيادات العسكرية ولم يكن الشعب السوري مهتمّاً بالأساس للعرق أو الاثنية أو المذهب التي يجري التقييم على أساسها في بعض دول المنطقة، والتي يدّعي بعضهم أنها السبب في هضم حقوقهم وعدم مساواتهم بباقي المواطنين، وقد جاء ذلك بعد العمليات التركية في المناطق التي تحتلها تركيا في ديار بكر وماردين وأورفه وغيرها حيث الأغلبية السكانية من الكرد السوريين بطبيعة الحال، وقد نزح منهم الكثير عبر سنوات الصراع، بعض هؤلاء لم يحصل على الجنسية السورية بسبب حملهم الجنسية التركية ما أتاح لبعض قياداتهم المتاجرة بها وممارسة عمليات التحريض على الدولة التي ارتكبت أخطاء في مراحل زمنية وخاصة في الستينيات من القرن الماضي عبر ما سمّي بعملية تعريب الشريط الحدودي الشمالي منعاً لعمليات التهريب والصدام مع القوات التركية التي لجأت إلى زراعة الشريط الحدودي في أغلب المناطق بالألغام وتمّ إغلاق حتى المعابر الرسمية في حالات التوتر والقطيعة، ومحاولة السلطات السورية التعتيم على حقيقة تبعية تلك المناطق والسكوت عنها بعد تنفيذ كلّ الاتفاقيات الاستعمارية بدءاً من سيفر إلى مؤتمر لندن 1921 الذي دفن اتفاقية سيفر وجدير بالذكر أنها الاعتراف الوحيد بما يسمّى مسألة كردية.

أسوأ ما نتج عن اتفاقية سيفر كان اتفاق سايكس بيكو، هذا الاتفاق الذي مزق الوطن السوري وأوجد الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عاب عليه الأكراد أنه لم يوجد لهم وطناً قومياً كما لليهود، وتركيا التي تريد دفن اتفاقية سيفر نهائياً حتى لا يذكرها أحد، يتمسك بها الكرد ويعتبرونها سفينة نجاة لهم خرقها الغرب والدول المحلية معاً، وأما المنطقة التي يحدّدها الكرد كدولة لهم تمتدّ حالياً على مدى أربعة دول محلية ليس بينها من يقبل بقيام كيان كردي بالمطلق وتجربة الشمال العراقي ماثلة للعيان ويعرف الجميع نتائجها وأوّلهم شعب كردستان الذي ينتظر أبناؤه رواتبهم من الحكومة المركزية، هذا الحكم الذاتي الذي فتح أبوابه للتغلغل الصهيوني وقيام شركات بشراء أراض تعتبر استراتيجية ومنطلق أساس لتجسيد ما تضمّنته خريطة نشرها البنتاغون على أنّ كلّ ما هو شرق الفرات دولة كردية تحت الحماية الصهيو أميركية، وربما يكون الوجود الأميركي الحالي شرق وشمال الفرات على أراضي الجزيرة السورية تجسيد لتلك الخطة بحيث يكون سهلاً التغلغل الصهيوني كما هو في كردستان العراق ويسهل بعدها تقسيم سورية وإلحاقها بالمخطط تحت سيطرة الغرب الذي تمثله الدويلة الصهيونية.

من السهولة بمكان رسم خرائط لدول وكيانات يرغب المستعمر بقيامها، ويبقى التنفيذ الذي يحتاج إلى أدوات وأتباع في المنطقة ذاتها يقتنع نسيجها بما هو مطروح، وهذا ما فعلته الادارة الأميركية ومعها اللوبي الصهيوني المتمثل بالمحافل المسيطرة على أغلب حكومات الغرب، ما لم يؤخذ بالحساب هو قدرة شعوب المنطقة على مقاومة المشروع وإسقاطه، ولهذا دأبت مراكز التخطيط والاستشارة في عالم الغرب على دراسة شعوب المنطقة منذ القديم ومتابعة تطوّرها ومحاربة هذا التطور أو توجيهه بما يخدم أهدافها وعلى هذا الأساس نجد أنّ الموافقة في أوساط معينة من الشريحة الكردية على مشروع الانفصال يلاقي الترحيب والاستجابة والمثال الأقرب هو عفرين قبل أن ننتقل شرقاً لما بعد الفرات، منطقة عفرين التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون كياناً قابلاً للحياة، فرضت عليه القيادات الكردية ذلك بحيث تم انزال العلم الوطني، واحتلال المؤسّسات الرسمية وإلغاء التبعية للدولة، وانتقلوا للمطالبة بفيزا لدخول المواطن السوري كما منعوا استخدام لوحات السيارات السورية، وهذا ما عبّر عن قصر نظر وسطحية في التفكير وعدم الاعتبار من تجارب الكيان الأكبر في الشمال العراقي، وكان من مصلحة الدولة السورية أن يتمّ تلقين المجموعة الانفصالية درساً قاسياً على يد المحتل العثماني، مع أنّ الدولة رغم انشغالها بالحرب على الإرهاب مدّت لهم يد المساعدة وفتحت الأبواب لقوات المتطوّعين وزوّدتهم بالسلاح والعتاد، لكنها لم تكن قادرة على فتح جبهة مع التركي تشكل عبئاً على الجيش الذي يكافح دفاعاً عن السيادة والاستقلال منذ أكثر من سبع سنوات.

لا يمكن لعاقل أن يصدّق أنّ العمليات التركية لم تكن بموافقة وتنسيق مع الأميركي، والأخير سيرحب حتماً بوضع يد التركي على منبج وهي غرب الفرات وليست شرقه، وزيادة في اطمئنان التركي سيقوم الأميركي بتحصين الحدود الشمالية شرق الفرات ويساعد التركي على محاربة حزب العمال الكردي ويعمل على تطويع أتباعه من الكرد للتعاون مع التركي ضدّ الدولة السورية ويبقى أنّ الفشل سيكون أقرب النتائج بعد انحسار الأميركي وخروجه أما الخسارة الكبرى فستكون على حساب عامة الكرد الذين تمّ حشو رؤوسهم بمشروع حلم هو الفانتازيا بحدّ ذاتها… مجرد خيال بعيد لا يمكن تحقيقه إلا إذا تمكن الكرد من السيطرة على الدولة التركية وهم الأكثرية عندها يكون لهم المنافذ البحرية والبوابات على أوروبا والعالم… وهذا ما لا تقبل الولايات المتحدة بحصوله أو مجرد التفكير به، ليبقى الكرد بندقية تسخرها الإدارة الأميركية وغيرها في عملياتها التخريبية على مساحة منطقتنا في كلّ من سورية والعراق وإيران، لكن ممنوع على الكرد ذلك على أرض الحليف التركي فهو عضو مهمّ في الناتو.

يعتقد الأكراد أنّ تسميتهم التاريخية المقاتل الخالد هي حقيقة، لكن الأسطورة تقول إنّ المقاتل الخالد هو فارسي الأصل وكان ذلك في غابر الزمان، هل ينتقل الكرد من الماضي إلى الحاضر بقفزة نوعية يحكمها الوعي وتستند إلى التجارب عبر التاريخ لبناء المستقبل!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى