مقاطعة روسيا تمنحها الضوء الأخضر؟

روزانا رمّال

لا يمكن التعاطي مع ملف الجاسوس الروسي أو المسمّى بالعميل المزدوج إلا بمنظار سياسي بحت لا قضائي. فكل الاتهامات تصبّ باتجاه التصويب على روسيا من دون أن يتخذ التحقيق مجراه. وهو أمر تبدو موسكو يقظة له، وقد أعلنت ذلك في بداية الحادثة عبر وزارة الخارجية بالقول إن «عدم اهتمام بريطانيا بالتحقيق لمعرفة مَن يقف وراء تسميم ضابط الاستخبارات السابق سيرغي سكريبال، يجعلنا لا نستبعد تورّط الاستخبارات البريطانية في الحادث»، اضافة الى أن «تحليل ظروف ما جرى يبين عدم اهتمام السلطات البريطانية بتحديد الدوافع الحقيقية ومعرفة منفّذي الجريمة في مدينة سالزبوري، وهذا يجعلنا نفكر في إمكانية تورط الاستخبارات البريطانية».

كل شيء سار بشكل سريع جداً اتصالات أميركية بعواصم غربية لقيت تجاوباً لم يتعدَّ الثماني والأربعين ساعة لإحداث ضجة دولية حول الخطر الروسي ولتشويه صورة موسكو التي تبني منذ سنوات لرفع أسهمها في مجالات دولية وعسكرية عدة. وقد كشف بوتين عن اكثر ما يقلق الأميركيين قبل الانتخابات بالتفوّق وتخطي السلاح الأميركي الصاروخي والتجسّسي إضافة الى نجاحات اقتصادية والأهم سيطرة قوية في سورية وحضور هام في الشرق الأوسط حتى دول الخليج التي نسجت علاقات واسعة مع روسيا وصفقات منتجة تُضاف اليها العلاقة الاستراتيجية مع مصر وايران، فتصبح روسيا مرجعية تتجه تدريجياً نحو تثبيت هذا الحضور والواقع بالنسبة لدول الشرق الاوسط، حيث «اسرائيل» ومصالحها.

كل هذه الأجواء تعني أن مواجهة موسكو صارت أمراً ضرورياً. واذا كانت قضية سكريبال قضية محقة وأن روسيا فعلاً قامت بهذا العمل، فما الذي يفسر إذا نسف كل المصالح معها ومقاطعتها، وهو ما لا يوضع ضمن اي سلوك عملاني أو منطقي؟ فغالباً ما تلتقي الدول على مصالحها التي تفوق أي اعتبار. كما ان قضية الجاسوس المزدوج هذا ليست الاولى من نوعها. فقد عاشت الدول الغربية مع روسيا أو الاتحاد السوفياتي عقوداً من التحديات والعمل السري والاغتبالات المبطنة والأعمال المشبوهة من دون أن يتم استنهاض تكتلات اذا لم يكن ذلك واقعاً ضمن مشروع تصعيدي واضح. وبالتالي، فإن التهور السياسي ليس ما تقدم عليه هذه الدول والتضحية بالعلاقة مع روسيا تهدف الى واقع مصيري بحت وتؤكد على ضغط غير مسبوق من واشنطن، لكن كل ذلك لقاء ماذا؟ هذا هو السؤال الاساسي.

على اي حال صار كل شيء واضحاً. والأرضية مسهلة لبناء الفرضيات، لكن السيناريوات المفترض ان تكون مؤلمة بالنسبة لروسيا كانت مأمولة، عملاً بالخطوة البريطانية الأميركية الخلفية قد لا تكون كذلك في مكامن عدة، خصوصاً في ما يتعلق بالملف السوري وبالملف الكوري الشمالي. وهنا الحديث الكبير عن مفاوضات وهو ما يعني توقفها أو تعطيلها بالملفات. فإذا أراد الجميع مقاطعة روسيا، فإن هذا يعني تراجع التفاوض الى نقطة الصفر وإذا كان هذا فعلاً ما تريده واشنطن، فإن هذا يعني التالي:

أولاً: ضوءاً أخضر لروسيا للتصرف بملف جزيرة القرم بالطريقة التي لا تحمي فيها سوى مصالحها بدون النظر بالعلاقة التي كان يحرص عليها الجانب الأوروبي قبل قطعها، ومن ضمنها فتح الأمور على الاحتمالات كافة.

ثانياً: الملف النووي الكوري الشمالي الذي تسعى واشنطن لإحداث إنجاز جديد فيها عبر التوصل لاتفاق على غرار ذلك الذي توصلت اليه مع طهران ليصبح إنجاز ترامب الأساسي في هذا العهد لتسويقه لولاية ثانية. والحديث عن عدم اهتمام أميركي صار وراء ظهر الجميع لأن إرسال موفد مثل جيفري فيلتمان وتواصل الزعيمين يؤكد حاجة ترامب لهذا الملف من أجل ضمه لسلسلة الإنجازات التي يقدمها للأميركيين بما يتعرّض لتهديدهم المباشر كما تروّج الادارة الأميركية منذ سنوات. وكل هذا لن يتم بدون المساعي الروسية التي أثبتت نجاحها في الملف الايراني. وبالتالي هل تريد واشنطن التضحية فعلاً بهذا؟

ثالثاً: ضوءاً أخضر روسياً «عسكرياً» في الاقتصاص مما تبقى من الارهاب في سورية من دون التطلع الى أي نوع من المفاوضات التي كانت تلجأ اليها واشنطن من أجل تمييع الوقت والاستفادة منه، كما أن روسيا وأكثر من مرة نزلت عند رغبة الأميركيين والأتراك وغيرهم من الخصوم بملفات مثل هدن غير ناجحة وغيرها ومساومات على مسلحين ساهمت بإحداث توازن في مشهد تطلب بعض التنازلات للحفاظ على علاقة الضرورة. كل هذا ستكون روسيا بالغنى عنه إذا صحت نيات التصعيد بالإضافة الى ان المفاوضات على الجنوب السوري وهو الجزء الأهم هنا بما يعنيه من وجود إيراني ومراعاة مصالح «اسرائيل» وغيرها مما يقلق الأميركيين سيصبح تقدير مصيره أصعب. كل هذا من دون الحديث عن مسألة التنسيق العسكري بين الروس والأميركيين والقواعد الأميركية التي تنتشر في مناطق نفطية سورية. كيف ستكون الأمور إذا توقفت الآلية السياسية واستمرت القطيعة الدبلوماسية؟

كل هذا يعني ضوءاً روسياً أخضر لاستكمال اللعب بالملفات الثلاثة بما تراه موسكو مناسباً. وهذه المقاطعة لن تؤدي سوى الى شيء واحد يهرب منه الغرب ويقاطع روسيا كي لا يتحقق ألا وهو «تفرّد روسيا في المنطقة»، خصوصاً بعد أن استجمعت أوراق انتصاراتها وحمت ما تسمّيه الأمن والمدى الحيوي لجمهورية روسيا الاتحادية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى