السعودية مستنفرةٌ لمنع التراجع الأميركي!

د. وفيق ابراهيم

لا يكتفي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بدعم التراجع الأميركي بآلاف مليارات الدولارات، ثمن صفقات استهلاكية لإنتاج أميركي، يحاول تجديد دوره وإمكاناته في الجغرافيا السعودية.. إنما مع الاحتفاظ الحصري بأسرار الإنتاج على مستويي العلم والإدارة.

أما جديد الأمير محمد بن سلمان فهو الجمع بين هذا الدعم الاقتصادي وجملة تحركات استراتيجية، تهدف إلى التغطية على التقهقر الأميركي في سورية والعراق واليمن.

تشمل تحركاته لبنان والعراق وسورية واليمن والقضية الفلسطينية.. أي معظم الملفات المأزومة منها مستعملاً فيها، ثلاثة عناصر: أهمية بلاده في العالم الإسلامي من خلال إدارتها للحرمين الشريفين في مكة والمدينة.. العنصر الثاني يحتكر النطق باسم السنة العرب والمسلمين ويستعمله لغايات التفتيت الداخلي في المشرق العربي والتحشيد ضدّ القوميات الإسلامية الأخرى. أما الثالث، فهي الاحتياطات النقدية المتجمعة من بيع النفط في ثلاثة أرباع القرن الأخير.

هذه العناصر الثلاثة منحت آل سعود مساحات تحرك واسعة تضرب فيها ذات اليمين وذات اليسار بما يخدُم مصالحها المندرجة في إطار الاستراتيجية الأميركية الكبرى.

هذه هي الإمكانات التي تمنح السعوديين مساحة حركة واسعة في «أسواق السياسة في لبنان»، بعد «غيبة» سببها خلافات مع القوى الداخلية المحسوبة عليهم.. أما اليوم فتضغط السعودية عبر موفديها الدائمين إلى بيروت بالتعاون مع دبلوماسيي دولة الإمارات لتنظيم أكبر محاولة ضغط يتعرّض لها لبنان منذ تأسيسه. تبدأ بمحاولات رعاية القوى السنية بأساليب التحشيدين المذهبية و«المالية»، والانفتاح على القوى الدينية والسياسية المسيحية الموالية لها ورعاية القوائم الانتخابية وتسهيل التحالفات مع الطوائف الأخرى وإعادة جذب قيادات مسيحية ودرزية مع بعض الشيعة الخارجين من إطار تحالفات حزب الله وحركة أمل.

فتبدو الصورة وكأنّ السعودية تُعيد تركيب مشهد سياسي لبناني جديد تحت رعايتها الكاملة لإنتاج سلطة معادية لدوري حزب الله في قتال إسرائيل والإرهاب. ولهذا السبب فقط استعان السعوديون «بالفرنسيين» للتأثير على التيار الوطني الحر وإلحاقه بالمعادلة الجديدة بمقابل سياسي كبير، يظهر بعد الانتخاب سياسياً وعلى مستوى انتخابات رئاسة الجمهورية بعد أربع سنوات. كذلك تنتهك السعودية سيادة لبنان السياسية، وتحوّله ربعاً من ربوعها في جولات يومية لمندوبيها على كلّ سياسييه وشخصياته العامة باستثناء تلك المحسوبة على حزب الله.. وذلك من دون أن يصدر انتقاد رسمي واحد على حركة دبلوماسيين سعوديين يؤدّون في لبنان دور ولاة الأمور. ويشكّلون مع الاختراقات الجوية الإسرائيلية اليومية لأجواء لبنان ألغازاً لا يمكن تفسير الصمت الرسمي اللبناني عن إدانتها على الأقلّ.

ولا يتورّع ولي العهد عن دعوة الأميركيين لعدم الانسحاب من سورية.. بما يؤمّن التغطية العربية والسعودية راعية الحرمين الشريفين، للاحتلال الأميركي لأراضٍ عربية سورية.. وهذا يشمل أيضاً دفع نفقات هذا الاحتلال لأنّ الرئيس الأميركي ترامب أشار إلى أنّ بلاده لن تدفع بعد اليوم نفقات قواتها وحلفائها في سورية والبالغة 900 مليون دولار فقط. وهنا تهبُّ نخوة العربان وتسدّده عنها.

اللافت هنا أنّ دعوة إبن سلمان تتزامن مع تحرير الغوطة الشرقية من قبل الجيش السوري وهي آخر مكان للنفوذ السعودي في سورية.. فتتوضح أسباب الدعوة السعودية، التي تعترف ببقاء الرئيس الأسد في السلطة لكنها تدعو الروس إلى طرد المستشارين الإيرانيين وحزب الله منها.. ما يكشف الأهداف الأميركية ـ السعودية التي تريد تقسيم سورية إلى نفوذين أميركي وروسي باستبعاد ايّ دور للإيرانيين، وربما للسوريين أيضاً.

والعراق أيضاً، حلبة جديدة، تدأب السعودية على محاولة امتصاص انتصاره على الإرهاب بمحاولات إيقاع الفتنة بين مكوناته الداخلية، والإصرار على تطبيع العلاقات معه. على قاعدة محو الماضي.. هذا الماضي الذي نتج عن تدخلات مذهبية سعودية دعمت داعش وكل أنواع الإرهاب وأدت إلى قتل مئات آلاف العراقيين.. وتتصل بكلّ السياسات السعودية الطائفية التي بدأت منذ ثلاثينيات القرن الماضي واعتمدت سياسات فتك وتنكيل وتدمير للعراقيين من كلّ مكوّناتهم وللعراق.

فيبدو طلب التطبيع السعودي وكأنه محاولة لإجهاض النصر العراقي، ومجرد ربط نزاع حتى تشكيل موازنات قوى جديدة تعيد لهم دورهم في تأجيج الفتن المذهبية والطائفية والعرقية. فهم تارة مع الإرهاب ضدّ المسيحيين والشيعة والايزيديين وبعض السنة.. وتارة مع الأكراد ضدّ الدولة في بغداد، وتارة أخرى مع سياسيين سنة ضدّ سياسيين شيعة وهكذا دواليك.. ولما تنتهِ المسرحية بعد.

وتواصل الرياض رشوة دول مجلس الأمن وحكومات الغرب لتأمين تغطية على مجازرها في اليمن، واجتياحها العسكري المغطى من ترامب بشكل كامل، خصوصاً بعد التراجع الأميركي في سورية والعراق.. هذا التراجع الذي رفع من منسوب توتر البيت الأبيض وجعله يخشى على نفوذه في اليمن الرابط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج. هنا أيضاً يُسدي السعوديون خدمة للجيوبوليتيك الأميركي بوضع اليمن في خدمة مشاريعهم وإمساكهم بالقسم الاقتصادي من الحركة البحرية في العالم مع تأمين وصاية سعودية على اليمن، رأس جزيرة العرب الذي كان يشكل دائماً حديقة خلفية لهم.

تبدو هذه الحركات السعودية شديدة الوضوح ولا لزوم لبذل جهود في تحليلها.. لكن ما تفعله على مستوى القضية الفلسطينية، تؤكد انها مُكلّفة بإجهاض ما تحقق من انتصارات في المشرق العربي، جعل وزير الدفاع الأميركي ماتيس يقول لمجلة أميركية، «إنّ روسيا تحاربنا في مواقع استراتيجية للنيل من احادية موقعنا العالمي.. ولن نسكت على حركتها. كما اننا لن نسكت على الدور الإيراني المناهض لنا».

ضمن هذا الإطار الأميركي المصرّ على التفرّد بالقرار الدولي، يمكن إدراج الحركة السعودية الإقليمية في المشرق العربي وإيران وعالمياً بالدعم المالي المباشر للأميركيين.

لذلك يذهب السعوديون بعيداً في محاولات إنتاج تحالفات جديدة تعيد ترميم ما تضرّر نتيجة للهزيمة الأميركية.. فتسارع الرياض إلى الانفتاح على خط «إسرائيل» ـ مصر ـ باكستان. وهذا يتطلب دعماً مالياً للقاهرة وإسلام آباد يتجدّد سنوياً.. مع إلغاء للقضية الفلسطينية لإرضاء «إسرائيل».. فكيف يمكن أن يتمّ هذا الأمر بشكل يبدو فيه محمد بن سلمان وكأنه بطل يخرج من حكايات ألف ليلة وليلة وأساطير الإغريق؟

بداية.. تأمَّن التجديد للرئيس السيسي بمعدل رهيب.. أيّ التجديد لسياساته التي يمكن أن تلعب رأس الحربة في حصار غزة وقواها الرافضة للمشروع السعودي.. وتحرص المخابرات الأميركية على رفع مستوى التهديد الهندي لباكستان التي تصبح بذلك، أكثر ارتباطاً بالأميركيين والسعوديين. وترسل قوات أكثر لدعم السعودية في حرب اليمن، وتأمين موافقات إسلامية في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية لمشاريعها في إلغاء القضية الفلسطينية.

لذلك، يجري التحضير لاعتداءات إسرائيلية من قبل متطرفين يهود على المسجد الأقصى، إلى جانب إطلاق مزاعم صهيونية يركّز عليها الإعلام الغربي، وتعبّرُ بمجموعها عن إصرار إسرائيلي على ضمّ المسجد الأقصى إلى «القدس اليهودية» المزعومة.. فيتحوّل الصراع من عروبة القدس إلى إنقاذ المسجد الأقصى من خطة تحويله إلى هيكل سليمان.. وهنا يظهر البطل محمد بن سلمان مع حلفائه الأميركيين الذين ينقذون «إسلامية المسجد» بعد صراع مرير مع الإسرائيليين ينتهي في الغالب إلى تشكيل «دويلة ابو ديس»، لمحمود عباس مع إنهاء الحركات المقاومة في غزة.. وإنشاء إدارة سعودية ـ فلسطينية للمسجد الأقصى باستثناء حائط البراق الإسلامي والمبكى اليهودي الذي ترعاه إدارة سعودية ـ إسرائيلية مشتركة. وبذلك يتأمن الحلف الإسرائيلي ـ السعودي مع دولة «أبو ديس» ومصر التي يفترض بها أن تقود العالم الإسلامي نحو مزيد من الانصهار في قلب الجيوبولتيك الأميركي في مواجهة الصعود الروسي والصيني والإيراني.

هذا هو الدور الموكل إلى ولي العهد، فهل ينجح؟

لن يفلح، لأنه معادٍ لحركة التاريخ مهما تعثرت في مراحل معينة.. فعين الغرب على هذا المشرق منذ اليونان والرومان قبل آلاف السنين.. أين هم اليوم؟

نحن هنا. وهم مجرد سطور صفراء على لوحة التاريخ المزيف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى