فلسطين والخرزة الزرقاء…

د. رائد المصري

لم يكن على سبيل النكتة والمزاح طرح الشعار الانتخابي لتيار المستقبل أو ما تبقى من الحريرية السياسية في لبنان الخرزة الزرقاء التي تحمي لبنان من المخاطر، بل هو شعار مدروس بعناية وإتقان لمأْسَسة سياسة التطبيع والخنوع وتشريع فلسفتها وتعميم مدارسها للاستفادة من متخرجيها في المستقبل، خصوصاً أنَّ هذه المدرسة التي أتْقنت الدور منذ عام 1992 وعرفت كيف تُمسك بمفاصل النظام اللبناني الاقتصادي وتجويع الناس ورهن مقدرات الدولة للمستعمرين الماليين الجدد البنك الدولي وأدواته ، هي اليوم الطبقة السياسية ذاتها التي تريد جرَّ البلد الى حفْرة ديون جديدة تستطيع من خلالها إحكام قبضتها على رقاب الناس لعقدٍ أو عقدين من الزمن عبر مؤتمرات المِنح والمساعدات الغربية والخليجية المشروطة، وبالفوائد العالية التي لن يظهرها رعاة المؤتمرات إلاَّ بعد التوقيع والتسليم بمقدرات البلد ومؤسساته لقدر المؤسسات المالية الدولية، مؤمنين بحماية الخرزة الزرقاء للبنان من سطْوة البنك الدولي واستعماره الجديد، ومن اعتداءات الكيان الصهيوني المستمرَّة على البلد ومنشآته النفطية والغازية، وعلى أبناء شعب فلسطين قتلاً وتدميراً وتهجيراً وقنصاً، من دون أن يعترض العقل الجمعي العربي في هذه الأمة النائمة على ما يجري من ارتكاب مجازر جماعية بحق فلسطين والقدس والمقدسات. بل شهدنا من هذا العقل الجمعي اعتراضات شتَّى على محاولات إخراج المسلَّحين الإرهابيين من كلِّ المناطق التي احتلوها وخرَّبوا أرضها واغتصبوا شعبها: في لبنان وحدوده الشمالية الشرقية وفي سورية على مختلف جبهات القتال وفي العراق إبَّان بدء الجيش عمليات عسكرية للإطاحة بهذا الوحش التكفيري القاتل…

في الأصل بمجرَّد أن تتقبَّل رمز الخرزة الزرقاء وتؤمن بحمايتها، يعني أنك فقدت ما تبقى من عقلانية بحدّها الأدنى، وهنا لا نستطيع الرهان في لبنان وبلاد العرب على أمَّة كانت ولا زالت غائبة بأغلبيتها ومتماهية مع الحركات التكفيرية التي عطَبَت البلاد العربية ومزَّقتها شراذم وأعدَّتها قطعاً للبيع في السوق المالي الدولي الناهب، هي أمَّة لا يمكن التعويل عليها، كذلك وشعب فلسطين يُذبَح أمام ناظريها وتُغتصب مقدّساته وهي تحمل شعار صيبة العين والخرزات الزرق، بعد أن انهارت كلُّ آمالهم وأحلامهم ورهاناتهم الدموية القاتلة على المشاريع الأميركية والصهيونية بتخليصهم من المقاومة ومن سورية ومن فلسطين وقضيتها تحت شعار ونشر ثقافة حب الحياة…

شعار الخرزة الزرقاء ولو تظهَّر بأنَّه موسمياً ليلتئم شملُ الذين تبعثروا وتفرّقوا من جديد، لكنه يُشكِّل خط سير للواقعية السياسية الانهزامية عند الكثير من العرب في مواجهة المستعمر الأميركي والإسرائيلي، وحيث فشلت مبادراتهم وتنازلاتهم أمام العدو منذ اتفاقية كامب ديفيد مروراً باجتياح لبنان 1982 وصولاً إلى مبادرة بيروت 2002 للملك السعودي، وحيث لم تشفع لهم كلُّ تلك التنازلات المذلة أمام المستعمرين، وحيث لم تُستجَب لهم المطالب عبر المؤسسات والمنظمات الدولية والأممية والدبلوماسية، وحيث لم تنفع كلُّ رهاناتهم وثقافاتهم المدسوسة في العقل والوعي العربي، يطالبون ويعمِّمون اليوم صيبة العين التي تحمي البلد. فالمهم أن يذهبوا في أي اتجاه وأي وجهة: تنازلية كانت أم صبيانية، دموية أم تكفيرية، فالمهم أن لا يقرَبوا المقاومة ويعترفوا بقوتها وبهزيمتها للمشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة.

هذه هي عُقَدُ النقص العربية المتأصِّلة منذ ما قبل التاريخ، ومَن لديه عقدة نقص يبقى رهينتها في دائرة مغلقة غير قادر على الخروج منها إلاَّ بالقوَّة. وهو ما يجب أن يكون عليه البلد، لأنَّ مهمة التحرير لا تقتضي دحر العدوان والاستعمار بقدر ما تقتضي تحرير إنسانك العربي السجين. هذا الإنسان الذي يشهد عودة الى الماضي عبر تجديد عوامل التخلُّف فيه، وهي حالة لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مئة عام أو أكثر، يعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصُّعد، حيث تتجاذبه الحداثة والسلفية، إنسان شخصاني في علاقاته الاجتماعية يعيش حتى اليوم عصر ما قبل المرحلة الصناعية والتكنولوجية ومرحلة ما قبل الحداثة.

هذا الإنسان العربي الواجب تحريره ما زالت تُمارَس عليه وضدَّه مختلف أنواع الاستغلال والهيمنة والقهر والإذلال ويعيش على الهامش، مستباحاً معرَّضاً لمختلف الأخطار والاعتداءات، قلقاً حذراً باستمرار من احتمالات السقوط والفشل والأخطار. فهو إنسان بعيد ومغترب عن ذاته، ولأن إمكانات المشاركة نادرة وضيقة، لا يجد من مخرج سوى الخضوع أو الامتثال القسري أو الهرب الى القدر المحتوم التي لا يرى فيها إلاَّ الحماية عبر الهرطقات والخزعبلات، علَّها تُنسيه بعضا ًمن مآسيه التاريخية…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى