رواية «الحالة الحرجة للمدعو ك»… سرد متقن ضدّ الحياة

محمد ولد محمد سالم

عاش المدعو «ك» منكفئاً على نفسه، منصرفاً إلى قراءة الروايات، ينظر إلى الحياة بحيادية، ولا يسعى إلى أيّ مكاسب، ولا اهتمامات له خارج القراءة، وقد تخصّص في المعلوماتية مضطراً، لأنه قيل له إن الإنسان لكي يعيش، ينبغي أن يحصل على عمل، وأسهل طريقة للحصول على عمل، الحصول على شهادة في تخصّص مطلوب في السوق، وعندما تخرّج حصل على وظيفة في شركة خليجية للبيتروكيماويات، ولم يكن يملك أيّ حماسة للعمل، ويتعجب من زملائه الموظفين الذين يبذلون جهوداً خارقة في العمل، ويتأنقون في لبسهم، بشكل دائم، ويتطلّعون إلى الترقيات. لكن هذا المدعوَ «ك» يصاب فجأة بالسرطان، ويبدأ رحلة علاج كئيبة ومؤلمة، تتحوّل معها لامبالاته إلى سخرية من الحياة.

عاش «ك» منذ بلوغه، عادة الانكفاء على الذات والابتعاد عن الآخرين، حتى أخوه وأخته وأمه أصبح يضع بينه وبينهم حواجز، ويتعامل معهم بحذر، لا يبوح لهم بشيء، ولا يشركهم في شيء من شؤون حياته الخاصة، ولم تكن له صداقات من أي نوع يمكن أن تعوض تلك العزلة التي وضع نفسه فيها مختاراً، حتى إنه لم يسع إلى ذلك، كان كل همه أن يكون وحده، وأن يصرف وقته لقراءة الروايات، واكتسب من تلك العزلة زهداً في كل شيء، وانعكست تلك الوضيعة على حياته، فأصبحت علاقته بأمه باردة، يسمع لها وهي تكيل له العتاب وتسدي له النصائح تلو النصائح، من دون أن يتحرك أو يتكلم، ومن دون أن يرتسم على وجهه تعبير من أي نوع، سوى تلك النظرة اللامبالية التي ينظر بها إلى كل شيء في الحياة. أما أخته فقد أصبح بعد فترة لا يكلمها ولا تكلمه، ويظهر عليها البغض والاشمئزاز من حاله ومظهره المهلهل، وكانت بنتاً تحب المظاهر، وتجري خلفها، وكذلك طبعت علاقته بأخيه الذي يكبره بقليل بشيء من البرودة. مع تلك الحال من الانكماش واللامبالاة، كان الشيء الوحيد الذي اهتم به خارج الأدب، هو دراسته، وسعيه للحصول على شهادة تكفل له لقمة عيشه، وحين حصل على وظيفة، لم يحفل بما يسعى له كل زملائه من أحلام في الارتقاء الإداري والحصول على المراتب العليا، حتى إنه حين حظي بفرصة للعمل في أحد أهم أقسام المعلوماتية في الشركة، لم يبال بما يبذله زملاؤه من مجهودات خارقة، وانضباط منقطع النظير، كانت تقتضيه منهم خطورة مهنتهم، فكان يتأخر عن مواعيد الدوام، ويجيء في ثوب مهلهل لا يلائم جو الجدية والأناقة الذي يسود في قسمه، ولم يكن يبالي بحضور الاجتماعات التي ينظمها مسؤول القسم سعياً وراء التطوير الدائم، وبلوغ أقصى حالات الإبداع في العمل.

عندما يصاب «ك» بالمرض، ويبدأ الفحوصات والعلاجات يجد نفسه فجأة موضع اهتمام كبير من أفراد أسرته، وزملائه في العمل وأصهار أخيه ومعارف أهله، فيرى في ذلك الاهتمام نوعاً من النفاق، ويسر به لأنه يعطيه فرصة للانتقام منهم، ومن تشبثهم بالحياة، فيظهر لهم احتفاء غريباً بالمرض، وقد فرح بالمرض أول ظهوره لأنه سيكلف الشركة التي يعمل فيها مصروفات العلاج، ورغم أنه أجرى كل الفحوصات التي كان الأطباء يكلفونه بها، إلا أنه لم يكن ملتزماً بالعلاج الذي يصفونه له، ولم يبال بحالته التي بدأت تتدهور، فكان ينظر إلى آلامه وأعراض مرضه كأنها تقع في جسم شخص آخر لا علاقة له به، وقد رفض كل عروض المساعدة من أخيه وأخته اللذين أرادا أن يتكفلوا بمرضه، ولم ير في ذلك موقفاً أخوياً تمليه رابطة الدم الواحد الذي يجري في عروقهم، بل نظر إليه على أنه نفاق يمليه المظهر الاجتماعي الذي يريدان أن يظهرا به أمام أصهارهم وأمام المجتمع.

يمتلك عزيز محمد أصالة لغوية وبراعة أسلوبية وإتقاناً سردياً لا تخطئه عين القارئ الحصيف، ولا يعكر ذلك الأسلوب الجميل سوى بعض الكلمات البذيئة التي ترد على لسان بطله بين الحين والآخر، والتي لا يقتضيها السياق، ولا يستدعيها بناء الشخصية، فكأنها مقحمة إقحاماً، ومقصودة لذاتها، صحيح أن قناعته بعبثية الحياة، ولا جدواها تجعله قادراً على أن يخرق كل الحدود، لكنّ ورودها في سياق الوصف والتشبيه جاء نابياً ومن دون مبرر.

ومن خلال لغة شفّافة وأسلوب جميل وسرد متقن يقودنا الكاتب عبر صفحات روايته لمتابعة الحالة الحرجة لبطله «ك» مستعيراً حالة أبطال كافكا العبثيين المتبرمين بالحياة الساخرين منها، خاصة بطله جوزيف «ك» في رواية «المحاكمة» الذي أوصلته تلك المحاكمة الغريبة على جرم لم يقترفه، ولا يعرف ما هي حقيقته، إلى حالة من اليأس والاستسلام الساخر من الحياة، خلاصتها هي أن «ليس بيدك إلا أن تقبل الأشياء كما هي، وقبل هذا وذاك، لا تلفت الأنظار إليك! أبق على فمك مغلقاً، مهما كان ذلك ضد طبيعتك»، فمن خلال مسار مماثل في تطور البنية النفسية للبطل رغم اختلاف طبيعة الأحداث والواقع في الروايتين ـ يصل عزيز محمد ببطله إلى النتيجة نفسها التي انتهى إليها بطل كافكا، فهو مستسلم للحياة ساخر منها، بل منتشٍ بحالة «الألم العذب» التي أوصلته إليها، على أن الاختلاف الجوهري بين الروايتين يكمن في أن كافكا يقدم أسباباً وجيهة لحالة الاستسلام والسخرية والنظرة العبثية للحياة التي انتهى إليها بطله، فـ«ك» كافكا كان في الأصل رجلاً سوياً نزيهاً عمل مديراً ناجحاً لأحد البنوك، لكن تلك المحاكمة الغامضة التي زج به فيها هي التي حولته إلى حالة السوداوية تلك، أما بطل «ك» عزيز محمد فهو تقريباً أصبح متبرماً بالحياة ساخراً منها من دون أسباب وجيهة، وليس في ما يسرده من استرجاع لحياة الطفولة ما يدعو إلى تلك الحالة، فهو عاش في أسرة هادئة متوسطة الحال، لا ينقصه شيء من حاجياته الأساسية، وأبوه رجل مثقف هادئ، ينظر إلى الحياة بعقلانية وتوازن، وقد عرف كيف يربي أبناءه بحب واحترام، جعلهم يقدرونه، ويعجبون به، ولم يعش «ك» أي نوع من الاضطهاد الذي يبرر ذلك الانكفاء واللامبالاة الذي بدأ ينمو معه عندما تقدم نحو سن البلوغ، ولم يذكر أنه في مدرسته أو خارج بيته لقي معاملة سيئة تؤدي إلى مثل ذلك الانعكاس الاكتئابي العبثي، وعندما صار شاباً خريجاً بشهادة متميزة في تقنية المعلومات والتحق بشركة متطورة، وبيئة عمل حديثة، لم يبد أن هناك ما يدفع تطور حالته نحو الأسوأ، فهو يعيش بين أناس جادين متأنقين ومتألقين متفائلين يبحثون عن النجاح، والشركة تدعم خياراتهم تلك وتحاول أن ترتفع بها، لكنه هو وحده الذي يبدو متبرماً بذلك الوضع نافراً منه من دون سبب وجيه، إلا من حالة الاكتئاب القديمة التي تنامت معه، وعندما هاجمه المرض الذي يفترض أن يغير حالته، ويدفع إلى تعاطف إنساني معه، فإن ذلك المرض دفعه إلى الذروة التي أوصلته إلى لذة الإحساس بالاستقالة من الحياة والسخرية منها، ونظراً لأن الرواية لم تقدم تفسيراً منطقياً لتلك «الحالة الحرجة التي يعيشها البطل»، فقد جعله ذلك يفقد التعاطف الإنساني المطلوب، وبدت حياته كلها شيئاً مفتعلاً لا لزوم له.

يبدو بطل «الحالة الحرجة للمدعوِ ك» مستقيلاً من الحياة، غير مبالٍ بها، يقاوم كل غريزة فيه للتشبث بها، كل أمله أن يعيش على هامشها، ينظر إليها من هناك، من شرفته المطلة عليها، بلا مبالاة، ولا إحساس، فقط ينظر ويسخر ويتركها تمشي من دون اعتراض، إنها عبثية ما بعدها عبثية غريبة تنزع من الحياة كل معنى إنساني فيها، وتنزع من بطل عزيز محمد وجهه الإنساني، ولا تترك للقارئ فرصة للتعاطف معه، حتى وهو في أقصى حالات العجز، وقد خرّق جسمه المرض، وأقض مضجعه الألم، ونظراً لأنه بطل وحيد مهيمن على الرواية، ولا يقابله أبطال آخرون يمثلون وجه الحياة الإنساني ويتيحون للقارئ فرصة الإمساك بخيط إنساني، والاطمئنان إلى وجود معنى أو جدوى هذه الحياة، أي فرصة الأمل، نظراً لغياب ذلك، فإن الرواية طغى عليها طابع الكآبة والسوداوية، وسيجد قارئها صعوبة في إكمالها لما سوف يتملكه من إحباط وملل.

إن «العبث الجميل» الذي يهش له القارئ، ويتعاطف معه هو ذلك الناشئ عن أسباب موضوعية يبنيها الكاتب بمنطقية تقنع قارئه، وتجعله ينحاز لها، ويرق للبطل الذي تمزقه تلك العبثية، لأنه يعرف أنها حالة طارئة، فرضتها ظروف آنية، لن تلبث أن تزول، أما العبث لذات العبث، الذي يقدمه الكاتب على أنه مولود مع الإنسان متأصل في ذاته وحياته، فهذا ضد الحياة، وضد الإنسانية، وضد المستقبل الذي نتفاءل به دائماً، ونبذل الأسباب لكي يكون أجمل وأحسن، وقد كان ذلك العبث موضة في الغرب لفترة وجيزة ثم تلاشى إلى غير رجعة.

كاتب موريتانيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى