التشكيليّة باسمة عطوي… فراغات فاتنة للأسئلة برسم قارئ عليم!

طلال مرتضى

لا يحتاج قارئ التشكيليّة اللبنانية باسمة عطوي إلى أدوات شغل نقديّة ومفاتيح ليفكّ من خلالها ترميزات أعمالها وأكوادها. بالمطلق يتلمّس بالعين المجرّدة هالات الفراغ الجوّانية وبعيدة الأمد، ويتجلّى هذا من دون عناء، ظلّ ملامح الظلال القصيّة في مجمل لوحاتها والتي تشكّل هذه الهالات أو البؤر مراكز بيان لكلّ ما افتتحتُ به رأس مقالي.

وتفنيداً لهذا، أبدأ من حيث توقّفت عطوي عن ترك آخر لطاخة على مدّ بساط لوحتها. جليّاً نجد أنّها تُمحْوِر حراك أبطال لوحاتها كلّهم في نقطة ارتكاز اللوحة تماماً، أي المنتصف، وهذا ما يجعل قارئ العمل، يتوقّف في زاوية ما ليرقب عن كثب حراكها داخل الإطار الداخلي للعمل وليس المربّع الأعلى الأول، وهنا نجد العمل الفنّي وقد تشكّل داخل محور الإطار الأول كما أسلفت، على شكل واحة تضجّ بحركات قد نتلمّس بعضها ونقف على نواصي دوالّها من خلال سلطة الألوان الممنوحة لنا كقرّاء من خارج دائرة ضوء الفنّانة.

ثمّة أسئلة تجتاحني كقارئ ولا يمكن الفرار منها، تتداعى تباعاً لدى الاقتراب من أيّ عمل فنّي لباسمة عطوي. بدءاً، كيف لي عبور ساحات الفراغ ما بين الإطار الخارجي الأوّل ومحور العمل المسوّر كما قلت أعلاه، بتفاعلات حاملي العمل وحراكاتهم؟

من الغبن عدم الإجابة على هذا السؤال أو المرور عبره من دون النظر إلى ماهيّة ما وراءه!

لا شكّ، وهنا أسلّم بأن لكلّ قارئ مزاجية قرائية خاصة، تبدأ بالتفاعل مع العمل الفنّي لمجرّد الوقوف في حضرته والإبحار إلى تفاصيله المخبوءة، وهذا من المسلّمات الطبيعية كون العمل الفنّي هو مرآة للشخص الذي أمامه، كما قالها أحد النقّاد العظام: كثيراً ما يلتقط عبر حواسّه ما ينعكس من اللوحة على روحه أو ما يتقارب ويتقاطع مع انفعالاته في الحياة.

وهذا يدلي إلى أنّ أيّ عمل فنّي هو روح كاملة الحواس، تتنفّس لمجرّد تنفّس الرائي وتنبض عند انفعالاته كلها.

باسمة عطوي، ومن خلال مراقبتي الدؤوبة لحراكها الفنّي منذ معرضها الأوّل إلى الآن، حيث من الظلم ألّا أقولها بكامل وعيي القرائي إنّ خطّها البياني يمشي هوناً لكنه مدرك تماماً وجهته الآيلة مؤكداً إلى السموّ.

وفيما أجيب عن سؤالي الذي مرّرته سالفاً، بالقول إن أعمال عطوي هي بالتأكيد مكتملة الدوالّ، ولكن الإجابة على السؤال أعلاه تقودني إلى سؤال تالٍ أجد به ضالّة سؤالي الأول: ما سبب العزلة بين العمل وبينها؟

فالتركيز على حراك اللوحة الداخلي هو غاية رئيسة في كلّ أعمال عطوي، بحيث نشهد كلّ ما يدور داخل منطقة محدودة من فضاء اللوحة، وهذا ما يترك حيّز فراع عازل بين العمل من الداخل ومحيطه الخارجي الذي قد ينطلق إلى ما بعد الإطار الخارجي.

هذا الفراغ بالتحديد له دلالاته الروحية في جوّانية الفنّانة ذاتها والقارئ معاً، وهذا ما أجد، وكأني بها تقول: «هذا هو عملي وفقط»، بمعنى أن العمل معزول عنها تماماً، لتترك كرة القراءة في ملعب القارئ الرائي ليقوم هو بمدّ جسور يعبر من خلالها ذلك الفراغ، ليعاين ما يدور هناك في المركز.

لكنها موارية أعتقد أنّها مقصودة من عطوي ذاتها. فإنّ من يقترب أكثر من حساسية ألوانها المنتقاة، يلقي القبض عليها متلبّسة تماماً. فاستعمالها اللون الذاهب إلى الرمادي كبساط أوّلي عند حوافّ اللوحة، هو امتداد لكلّ الألوان الغامقة التي ألبستها لشخوص العمل. ومن المتعارف عليه أنّ الذين يرتكبون إثم الرسم من خلال تعاطيهم ألواناً غامقة، غايتهم الرئيسة طمس معالم الشخوص والحركات والتفاعلات، لتبدو في عيون الناظر لطاخات سرابية يذهب الأخير إلى تأويلها حسبما تنعكس تفاصيلها الموشّاة بالغبش إلى روحه.

ثمّة ضياع داخل لوحات عطوي يحتاج إلى قراءة فلسفية حسّية أكثر ما هو بحاجة إلى راءٍ يبحث عنه مثلي داخل أعمالها.

وأنحو إلى هذا الافتراض من باب أنّ اللوحات كلّها تذهب في البيان الخطّي أو اللوني إلى المكاشفة بين الشخوص في اللوحات. نجد الأشخاص كلّهم متقابلين وجهاً إلى وجه على رغم هلاميّة حضورهم. والمقابلة بحدّ ذاتها هي البحث عمّا هو مخبوء. فهنا تحجم بي سلطة الكتابة عن طرح مزيد من الأسئلة عمّا في داخل لوحات عطوي، وذلك لعامل مهمّ جدّاً، وهو أنّ الفنانة ذاتها لم تصل بعد إلى حلّ لغز الأسئلة التي تركتها بهالات الهلام أو تغييب وجوه أبطالها. بالمطلق، أجزم أنّ عطوي كفنّانة متمرّسة استطاعت وفي فترة وجيزة فتح دفتر حسابها نحو الضوء. ولكنها إلى الآن لم تشتفِ بعد من طرح أسئلة داخل محاور معيّنة من لوحاتها. ولست أدري، هل هو افتعال حراكيّ قرائيّ يراد به لفت انتباه قارئٍ عليمٍ، أم هي حالة الهروب أماماً خوفاً من الوقوع ـ من دون حذر ـ في مرارة الحقيقة التي لا بدّ من الوقوف على نواصيها؟

كاتب وناقد سوريّ/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى