إنّ لَنجاحهنّ عظيم!

نسرين بلوط

لا أحدَ ينكر بأنّ للمرأة ميزة التأقلم مع النوائب التي تتقلّب عليها، حتى لو استحالت غصناً شائخاً يصيبها بالكمد. فهي لا تتورّع بأن تمسك الشوك بأيديها وتتحدّى الضعف في عزّ احتياجها لبعضٍ من العزاء. وقد هدرت حقوقها منذ ترجمت كلمات مقتطفة من الأديان عن الأنثى بشكلٍ خاطئ، وقد ابتكر البشر هذا التمييز ليثبتوا بأنّ الغيوم المزركشة بستار الجهل التي تغلّف وجه المجتمع الشرقي، والمتلبّدة هناك منذ الأزل، تُنصف الرجل أكثر وتقدّس احتمالاته وتنبؤاته وترجيحاته. فهو العقل المدبّر والداعم للصورة اللحظية عن المرأة الشرقية، والتي انطوت على نفسها وتقلّصت وانتظمت لتصبح قانوناً خالداً تسنّها شرائع الديانات والبيئة والمجتمعات العربية كافة.

حاول الكاتب قاسم أمين، والذي لعب دور المصلح الاجتماعي من الطراز الأول، بكلّ أناة وسعة صدر، أن يبسّط هذا الموضوع ويُميط اللثام عن حقوق المرأة المهدورة من حوله، فثار عليه في وقتها الحزب الوطني واتهمه بالعمالة مع الإنجليز!.. وهاجت الدنيا وماجت، وتناحرت الأقلام تتسابق في تفنيد أفكاره، وتحجيم مراده.. فكيف لرجل عربي أن يدافع عن المرأة التي يجب أن تلزم حيّز الظلام وتتكبّل بأغلال انعكاساته فتتزوّج وتلزم منزلها وتطيع زوجها منكّسة الرأس، تزمّ شفتيها بالصمت المبرم دائماً؟

الزوايا باتت أوغل إعتاماً بالنسبة له، وخال قاسم أمين بأنه لم يفجّر مقدار ذرّة من الثورة الأنثوية، ولكنه فعل ولم يدرك مدى تأثير قلمه إلا بعد سنوات.. وقد ندم قاسم أمين على ثورته للدفاع عن المرأة.. لا لأنه لم يؤمن بها، ولكنه رصد بعين الخبير ما أفرجت عنه مرايا الظلال الخفية لردّة فعل الرجال الشرقيين إزاء تحرّر المرأة، فقال: «أدركتُ الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهنّ، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات فرأيتُ من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهم بكل أسف، ما جعلني أحمد الله ما خذل دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي.. رأيتهم بحال، فما مرّت بهم امرأة او فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، وما وجدت زحاماً فمرت به امرأة إلا تعرّضوا لها بالأيدي والألسن»ّ!..

إذن، فالمشكلة تقبع في الإغفاءة الأبدية للجهل التي يتبنّاها الرجل الشرقي.. فهو يعارض تحرّر المرأة ويظهر العنف الجسدي والنفسي لها.. يسلك مسلك الفوقية والعنجهية، بروحه المطلية بالطلاء المذهب بالغرور والطمأنينة الذاتية، بأنّ مكانه محفوظ وأن انفعالات المرأة وثورتها مهما بلغت ذروتها، فهي تكتسي بالخجل والتردّد والإحجام بسبب الترويع والتهويل من فكرة القمع المتدلّي من تنهيدة أبدية زرعها الدهر حسب ظنهم في أذهان النساء. ولا نستطيع أن نعمّم فكرة السادية التي تتمحور حولها أذهان الكثيرين من الرجال، وأكبر دليل على هذا أنّ قاسم أمين هو من أوائل الذين امتلكوا الجسارة والجرأة.. فصرخ في الحشود بأهمية كيان المرأة الذي لا يقلّ قيمة عن كيان الرجل. وأصبح دور المرأة لاحقاً أكثر إبهاماً ورمزية، فقد تصرخ مطالبة بحقوقها في مناسبات شتّى، ثم تعتكف ككلمات هيروغليفية معتقة بالوهن والتراجع.

فقد كانت تحتاج لإزميل متين حتى يكسر ويزحزح تلك الأفكار الرجعية المستقرّة في عقر المجتمع، والتي تحجب عنه ضوء الشمس، وتجلب له المزيد من الظلام والاندثار فيه. في عصرنا اليوم، ورغم وجود جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة، وحمايتها من العنف الأسري والزوجي والبيئي، إذ نسمع بالكثير من الجرائم التي تكون ضحيتها المرأة، فإننا نراها في رحلة البحث المضني عن نوعٍ من التبصر ينهمر من الشمس المحجوبة عنها بتعابيرها البليدة..

فالندوات التي تُقام في هذا الشأن كثيرة، والمشاركات أكثر.. ولا حياة لمن يسمع.. وبغتة، نراها تركّب الخصال الحميدة التي عجز قاسم أمين نفسه عن اكتشافها في داخلها.. فإذا بها تخوض معركة الانتخابات بثقة ولا تكتفي بهذا، بل تتحرّك برشاقة في مجتمعها وتمنح ضمانات أكيدة في الإصلاح إذا ما تمّ انتخابها!..

فهل حرّكت السياسة نوازع الدونية التي فرضها مجتمعنا على النساء، فضجّت صدورهن بصيحة البهجة والحماس، وانطلقن حانقات على وضعهن، ثائرات على صمتهن، يطمحن في الفوز في انتخابات نيابية شرسة، مسلّحات بتشجيع من رئيس الجمهورية على الترشّح بثقة واستحقاق، والله وليّ مَن يسعى؟ لطالما لعبت السياسة دوراً سامياً في تجييش مشاعر المرأة الوطنية، من جميلة بوحيرد، وصولاً اليوم إلى الفتاة الفلسطينية عهد التميمي.. فهل انبثقت رسائل النور في قلب المرأة من الجحر الحجري الذي أسقطتها فيه اعتبارات ذكورية دامية، فنفضت عنها غلالة سوداء تتلفّع بها مجبرة، لتبتكر كوناً جديداً تتفوّق فيه على نظرية قاسم أمين في التحرّر والانعتاق، فثمة باب يُصفق وباب يُفتح، وآبار الصمت تحفر من جديد، وترتحل يمامة بيضاء برسالة موثقة بدور المرأة في تاريخ وطنها وحمايته واستحضار مآثره..

الضوء للحرية لا يخبو.. بل يزداد، خاصة في ظل الانتخابات اليوم.. فهل يغزل في رقعة الظلام شعاع الحق الذي لم يصبّ يوماً في دائرة النساء؟ وهل تدرك الفجر أخيراً بعد أن تسكّعت طويلاً في قرقعة الجليد وتجهم الدجى؟..

الاستخفاف بدور النساء جريمة نكراء، وربما نبّهتها الانتخابات اليوم أكثر إلى فعاليتها المثمرة في مجتمعها وسياسة وطنها، وسمعت بين زخات المطر جنون البرق واعتلاء العواصف عرش مملكتها، لتطيح الظلم والدونية اللذين شعرت بهما كثيراً.. وقد تبنّتها، ولكنها لم تمتلك الحماسة اللازمة لتحقيقها على أرض الواقع حتى أتت لحظة نفضت عنها نعاس الرقاد المبهم الذي أجبرتها عليه التقاليد.

الجميل والمدهش أنّ هناك العديد من الرجال أمثال «قاسم أمين» الذين يصرخون بصوت مفعم بالتحدّي، وبكلّ جرأة قائلين: «إن لنجاحهنّ عظيم !»…

شاعرة وروائية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى