قطار الأقدار.. وقدرة الأفراد

عبد الرازق أحمد الشاعر

لا أعرف إن كنتَ تؤمن بالأشباح، ولا أريد أن أقوم بمحاولات بائسة لإقناعك بوجودها، لأنني لم أرَ في حياتي شبحاً أنا الآخر. ولا أعتقد أن شبحا سوف يتنازل يوماً فيقرّر لقائي عند أي مفترق طرق.

لكنني والحق يُقال، كنت أستشعر وجود تلك الكائنات كلما سرتُ وحدي ليلاً فوق رمال سيناء. كنتُ أشعر أن أرواحاً معذّبة تسكن تلك الرمال، فتتلظّى بالرمضاء نهاراً، وترتعد فرائصها بقرّ الليل، فتخرج لتأنس بالمسافرين وتذهب وحشتهم. كنت ألتفت كل عشر خطوات لأتيقّن أن رأساً لا تختبئ خلف أي تلّ، وأن الأصوات التي تجلجل حولي مجرّد هلوسات مردّها الخوف لا أكثر. وسرعان ما كنتُ أنسى خواطري المخجلة، وأتكلّف إخفاءها كلما تحدّث الرفاق عن مشاعر مماثلة.

لم أرد هنا أن أقصّ عليك يا صديقي خواطري المزعجة التي لا تقدّم ولا تؤخّر في مسار أيّ حدث، ولا تبيض أو تفقّس في أيّ سلة. كما لم أرد أن أضيّع وقتك الثمين في مناقشة قد تراها عابثة. لكن الشيء بالشيء يُذكر، وما فرط عنقود الذكريات سوى قصة قرأتها لثاني أعظم كاتب في التاريخ بعد شكسبير، وهو الرائع دوماً تشارلز ديكنز. ففي قصة قصيرة، صنّفها النقاد أنها من العشر الأفضل على مرّ العصور، تحوّل الأشباح حياة عامل تحويلة بسيط جحيماً لا يُطاق.

البطل رجل بسيط، لا يعرف من الحياة غير بيته وصندوقاً من الحجارة يقضي فيه قسطاً لا يستهان به من ليله المخيف. وقرب نفق مظلم آناء الليل وأطراف النهار، كان الرجل يجلس في انتظار إشارة من عامل المحطة المجاورة ليُخبره بقدوم قطار ومغادرة آخر. وبدوره كان صاحبنا يرسل برقيات مشابهة لعامل المحطة التالية. لكن الوقت كان يمرّ ببطء وكآبة، لا سيّما حين تتباعد صفارات القطارات وهديرها. لم يتأخر صاحبنا يوماً عن عمله، ولم تأخذه أبداً سنّة من نوم، لأنه كان يعلم جيداً أن إغفاءة واحدة تكلّف مئات الجثث.

وذات ليلة غاب عنها القمر، رأى صاحبنا شبحاً يخرج من فوهة النفق ويلوح بيده اليسرى، بينما يضع يمناه فوق عينيه. ينزل صاحبُنا مندهشاً، ويتوجّه ناحية الظل، لكنه عندما يقترب من النفق، يتلاشى الشبح. فيسير بين القضيبين الباردين بخطوات راعشة بحثاً عن المستغيث، فلا يرى أحداً. ويعود الرجل إلى صومعته العالية ليحرّك عصا الحديد فيمرّ القطار مسرعاً ليصطدم بقطار آخر ضلّ قضيبيه في عتمة الليل البهيم مخلفاً كومة من الجثث وعشرات الجرحى.

وبعدها بأيام يظهر الشبح واضعاً كفيه أمام وجهه في مظهر المنتحِب، فيتبعه عامل التحويلة حتى يتلاشى مرة أخرى عند النفق، فيقع في روع صاحبنا إحساس مبهم بأن شيئاً مريعاً سيحدث ذلك المساء. وبالفعل، ينزل الرجل من قفصه مسرعاً ليتفقد ما خلّفه قطار الليل، وليلملم ما تناثر من جثة فتاة كان وجهُها كالقمر. وهكذا، يربط صاحبنا بين ظهور الشبح والموت. ويدرك أن الظلّ نذير بأن الموت يتربّص بقمرته الداكنة.

يجلس الرجل ليقصّ على صديق له تلك الرؤى المفزعة، وكيف أنه طارد الظلّ حتى تيقن أنه ليس لرجل من لحم وعظام. فيسخر صديقه منه، وينصحه بالذهاب إلى طبيب نفسي ليعالج خياله المتوعّك. لكنه في تلك الأثناء يسمع صوت الجرس الذي رافق ظهور الشبح في المرتين الأوليين، فيُصخي سمعه، ويطلب من صديقه الإنصات. لكنه الصديق الذي لم يسمع صوت الجرس يعجز أيضاً عن رؤية الشبح الذي يواصل التقدّم نحو مقصورة الرعب ملوحاً بيديه.

لماذا ترسل لنا الأقدار بالنذر تلو النذر، إذا كنا عاجزين عن إيقاف عجلة القدر أو إدارتها إلى الخلف، وماذا يستطيع عامل بائس لا يجيد من الحياة إلا تحريك الأذرع الحديدية يميناً ويساراً في مواجهة قطارات لا تكفّ عن الصهيل وإراقة الدماء؟ ولماذا اختار النذير بائساً كهذا ليعلمه بقرب وقوع الكارثة من دون أن يمنحه القدرة على تحويل مسار القطارات أو إيقاف دورانها نحو الهاوية؟ أسئلة دارت في خلد المسكين التعس وهو يتوقّع طوال الليل كارثة جديدة.

في الصباح يأتي الصديق ليثبت لصديقه أن ما رآه مجرد خيال، وأن الأشباح وهم غزله ليل الوحدة والخوف. لكنه قبل أن يقترب من التحويلة، قرّر أن يلقي بنفسه نظرة على النفق. وهناك، رأى صاحبنا ظلاً طويلاً يتمدّد بطول النفق، فلما دنا، رأى أن الظل لم يكن لشبح، وإنما لضابط منهمك في لملمة قطع متناثرة من لحم صديقه عامل التحويلة.

هل كان ديكنز يحاول إقناعنا بوجود الأشباح في قصته الرائعة؟ في رأيي أن رأساً بحجم تلك الرأس لم تكن لتخرج غثاً بهذه الضحالة. لعلّ الرجل كان يشعر بالعجز الذي نشعر به الآن، وبالألم الذي انتاب عامل التحويلة وهو يرى القطار ينحرف عن مساره، ويدرك في الوقت ذاته أنه عاجز عن فعل أي شيء يوقف دائرة الجحيم.

ربما كان ديكنز يجترّ حادثة أليمة مرّت به شخصياً، حينما اصطدم قطار كان يقلّه داخل نفق بقطار لم يخرج من النفق عام 1961، لا سيما أن تلك الحادثة قد سبقت صدور تلك القصة بخمس سنوات. لكن الأمر في رأيي يتجاوز الحادثة والزمان، ويسمو فوق الأشباح والمكان. لعلها قصة تجسّد حجم المعاناة التي يمر بها المفكّرون الذين يقفون على جانبَيْ قطار الأحداث، ويرون مآلات الهمجية البشرية، ويلوّحون بأيديهم في عجز مؤسف، لأنّهم يدركون أن السائقين المتهورين لا يرون ما يرونه، ولا يسمعون ما يسمعونه. مؤسف أن يضطر المبصر العاجز إلى إلقاء نفسه تحت عجلات القطار في نهاية المأساة لأن قدره أن يرى النذر ويتوقّع المأساة، ورغم ذلك يبقى عاجزاً عن فعل أي شيء.

صحافي مصري

Shaer129 me.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى