عدوان أساسه النفاق ودافعه حرف الأنظار عن فضائح ترامب

لا تنبغي إعارة أهمية كبيرة لتوصيف العدوان الأخير على سورية، بقيادة الولايات المتحدة، بعدد الدول المشاركة المعلنة ثلاث، أو لعدد الدول والكيانات المؤيدة له حين احتساب قائمة طويلة ممن يصطفّ في مناهضة سورية أبرزها: الكيان الصهيوني، السعودية، قطر، البحرين، تركيا ودويلات خليجية أخرى، ولا يسقط من القائمة من قدّم التسهيلات أو امتنع حتى عن التنديد.

أما «فعالية» القصف الصاروخي سنتركها لمعالجة لاحقة بعد توفر المعطيات الكافية، وللإطلالة على بعض «أحدث» الأسلحة في الترسانة الأميركية التي جرّبتها واشنطن ضدّ سورية شاركت فيها «سفينتان حربيتان رابطتا في مياه البحر الأحمر وقاذفات استراتيجية، بي-1 بي من قاعدة العُديد في قطر، وطائرات مساندة انطلقت من منطقة «التنف» الحدودية مع الأردن، أو ربما قاعدة «الأزرق»، كما أفاد شهود عيان رصدوا إقلاع طائرات حربية منها.

في المقابل لا ينبغي إغفال أداء قوات الدفاع الجوي السوري التي تصدّت لما ينوف عن 100 صاروخ تتراوح كلفة إنتاج الواحد منه بين 1.4 1.7 مليون دولار، دون احتساب الأسلحة الأخرى المشاركة وإسقاطها 71 صاروخاً قبل وصولها لأهدافها، بالأسلحة النارية والإلكترونية وفق بيان القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة السورية، وكذلك لبيان وزارة الدفاع الروسية. يومية نيويورك تايمز، 14 نيسان، قالت إنّ 13 صاروخاً تمّ اعتراضها «لكن لم يتسنّ التأكد من صدقية نبأ التلفزيون السوري بشكل مستقل».

الزاوية الأهمّ، في اعتقادنا، هل يمكن اعتبار العدوان الأخير توطئة لعدوان واسع تستخدم فيه أسلحة حديثة قيد التطوير أم هو حلقة نهائية في مسار سياسة أميركية مرتبكة لصرف الأنظار عن التحديات و«الفضائح» الداخلية كما سعى الرئيس الأسبق بيل كلينتون وهو في أوج مراحل إحراجه وعشية تصويت الكونغرس لتقديمه للمحاكمة، 17 كانون الأول/ ديسمبر 1998، بقصف العراق بصواريخ توماهوك، عملية ثعلب الصحراء، في بداية شهر رمضان. آنذاك، نقلت يومية «نيويورك تايمز» عن المرشح لمنصب رئيس مجلس النواب، روبرت ليفينغستون، قوله «ينبغي علينا إرجاء البت بإجراءات تقديمه للمحاكمة».

انقسام بين صنّاع القرار

منذ بداية المداولات بشأن التعامل مع تصريحات الرئيس ترامب التي أعلن فيها نيته الانسحاب من سورية وسرعان ما تراجع عنها أمام ضغوط معسكر الحرب داخل وخارج أركان المؤسّسة، بدا واضحاً للعيان حجم التباين بين «تهوّر» البيت الأبيض متسلحاً بمستشاره للأمن القومي الجديد، جون بولتون، وعقلانية المؤسسة العسكرية ممثلة بوزير الدفاع جيمس ماتيس ورئيس هيئة الأركان جوزيف دانفورد.

عشية العدوان، حرّضت فورين بوليسي، 9 نيسان، صقور البيت الأبيض على المضيّ بشنّ حرب على سورية إذ «.. ينبغي على الرئيس ترامب القيام بعمل عسكري كبير إذا قرّر تنفيذ ضربة عدوان ثانية إلى سورية». بالإشارة إلى العدوان الأول على مطار الشعيرات، نيسان 2017. وزادت النشرة الواسعة النفوذ أنّ الولايات المتحدة «.. بحاجة لشنّ هجوم واسع يستهدف أهدافاً عدة في سورية».

أبواق أركان المؤسسة الحاكمة الأخرى وعلى رأسها يومية «نيويورك تايمز» شاطرت نظيرتها بالتحريض على العدوان. ونقلت عن البيت الأبيض، 10 نيسان، أنّ الرئيس ترامب بحث مع مستشاريه جملة خيارات لتسديد «ضربة أكثر إيلاماً وشدة ضدّ سورية والحملة هذه المرة ينبغي أن تتخذ سيناريو أوسع نطاقاً ومدة أطول». وأرفقت الصحيفة تحريضها بالكشف عن توجه «مجموعة من السفن الحربية بقيادة حاملة الطائرات هاري ترومان من مقرّها في ولاية فرجينيا إلى مياه البحر المتوسط، 11 نيسان.. ومن المتوقع أن تنضمّ فرقاطة ألمانية للمجموعة».

وأضافت نقلاً عن مصادر في البنتاغون أنّ المدمّرة الأميركية، يو أس أس دونالد كوك، غادرت ميناء قبرص باتجاه سورية»، وفي حمولتها نحو 60 صاروخاً مجنّحاً من طراز توماهوك.

وشاطرتها صحيفة «وول ستريت جورنال»، 10 نيسان، بالتأكيد على «وصول مدمرة يو أس أس بورتر»، إلى المنطقة بعد أيام عدة.

تواترت الأنباء عن اجتماع عاجل لمجلس الأمن القومي، الثلاثاء الى الخميس من الأسبوع المنصرم، لبحث طبيعة الردّ الأميركي على مزاعم استخدام سلاح كيميائي في سورية التي شارفت القضاء على آخر معقل للفصائل المسلحة في بلدات الغوطة الشرقية وقراها. وقيل إنّ وزير الدفاع ماتيس حذر وإلى اللحظة الأخيرة من الإقدام على شنّ «هجوم سريع من دون مواكبته باستراتيجية أكثر عمقاً»، كردّ على محور الرئيس ترامب ومستشاره للأمن القومي جون بولتون المؤيّديْن للعدوان. كما أعرب ماتيس والقيادات العسكرية الأخرى عن قلقهم من خروج الأزمة عن السيطرة السريعة ودخول روسيا وإيران في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة والمطالبة بتفادي الاصطدام مع قوات البلدين إلى أقصى مدى.

وصف الرئيس ترامب العدوان الغربي بتأييد من بعض الدول العربية بأنه شكل «ضربة قوية»… بينما لامس وزير الدفاع لغة الحذر من التصعيد بالقول إنّ العدوان كان «لمرة واحدة، وأعتقد أنها أرسلت رسالة قوية جداً لإقناع الرئيس الأسد، ولردعه عن القيام بذلك مرة أخرى».

اللافت في توجهات وزير الدفاع جيمس ماتيس كان توخيه الحذر من الانجرار وراء نزعات الانتقام الغريزية للمحافظين الجدد والصقور أيضاً. وعقد مؤتمراً صحافياً يوم 11 نيسان في البنتاغون برفقة ضيفته وزيرة دفاع هولندا ناقض فيه الرئيس ترامب لتحميل الرئيس الأسد مسؤولية ما جرى في مدينة الغوطة، قائلاً: «لا نزال في مرحلة تقييم المعلومات الاستخبارية.. نحن على أتمّ الاستعداد لتقديم مروحة من الخيارات العسكرية إنْ لزم الأمر».

عقب هدوء عاصفة القصف الصاروخي الذي اقتصر على مواقع وبنى تحتية محددة، بعضها تمّ إخلاؤه من أيّ وجود عسكري أو رمزي، عبرت يومية «نيويورك تايمز» عن «خيبة الأمل المعقود على شلّ قدرات الدولة السورية.. بالنسبة لكلّ لغة ترامب الصارمة خلال هذا الأسبوع، فإنّ البديل الذي اختاره لم يقرنه بأيّ جهد واضح لإلحاق الضرر بالآلة الحربية الأوسع للرئيس بشار الأسد أو لقيادة حكومته وسيطرته على قواته بخلاف أسلحته الكيميائية».

واستطردت بأنه «من غير المرجح أن يسفر انفجار ذخائر في ليلة واحدة إلى أحداث تغيير كلي في توازن القوى في سورية بعد سبع سنوات من الحرب الأهلية المدمّرة.. لكن الرئيس ترامب كان يأمل أن يكون ردّه كافياً لردع الأسد عن استخدام الأسلحة الكيميائية مرة أخرى من دون أن ينجم عنه ضرر يرغم روسيا وإيران على التدخل».

جدير بالذكر عند هذا المنعطف المرور على «العامل الإسرائيلي» في التحريض والتمهيد والمشاركة في العدوان على سورية من دون الإعلان المباشر عن ذلك. إذ كشفت الصحف «الإسرائيلية» عن مصادر لها داخل البيت الأبيض عن إجراء الرئيس ترامب مشاورات مع بنيامين نتنياهو أبلغه فيها عن قراره شنّ العدوان قبل حدوثه. كما أجرت تل أبيب «مشاورات مكثفة مع بريطانيا وفرنسا» بالتوازي مع قنوات اتصالاتها مع الإدارة الأميركية: إحياء محور العدوان الثلاثي زائد أميركا.

مستقبل دور وزير الدفاع جيمس ماتيس، وكذلك مستقبل الرئيس ترامب نفسه، لا يزالان في محور تكهنات أروقة واشنطن.

ترامب من ناحيته يمقت تقييد حركته من قبل البنتاغون، بصرف النظر عن طبيعة الموقف والمسألة المطروحة وتعالت التكهّنات بإقالة ماتيس طيلة الأسبوع المنصرم على خلفية تباين وتصادم الرأي والرؤى الاستراتيجية، كانت سورية إحدى حلقاتها البارزة وفي الخلفية توجّهات الإدارة بالتصعيد مع إيران وإحناء ظهرها لعاصفة المؤسسة العسكرية حول مزيد من التسلح وإبقاء روسيا في مصاف العدو الأول والاستراتيجي لواشنطن.

لم يعُد سراً ما كان يرمي إليه الرئيس ترامب من الإمساك بمفاصل مؤسسات القرار السياسي، الخارجية ووكالة الاستخبارات، ونجح إلى حدّ باهر في فرض رؤيته على المؤسّستين. بيد أنّ جهوده لا تزال تتعثر في إقصاء نفوذ وزارة الدفاع إلى الحدّ الذي لا تشكل خطورة على تفرّده بالقرار، ومن المستبعَد أن تكلل جهوده بالنجاح باستثناء إحداث تغيير في بعض الشخصيات والقيادات.

نجاح ترامب «المرحلي» في استحداث وزارة حرب يقودها متشدّدون بل قمة في التطرف والعداء يؤشر إلى حدّ كبير على عزم المؤسسة الحاكمة التحكم بمسار البوصلة السياسية وإحياء سباق التسلّح دون وجل، تدعمها مؤسسة تشريعية «خانعة» ومطواعة نظراً لارتباط معظم قادتها، على الأقلّ، بالمصالح الاقتصادية الكبرى.

السؤال الأهمّ أمام أذرع المؤسّسة هو هل استنفدت غرضها من شخص الرئيس ترامب، خاصة بعد محاصرته بسلسلة غير متناهية من الفضائح الأخلاقية والسياسية. الإجابة الحاسمة مؤجلة إلى ما بعد موسم الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي وإفرازاتها على صعيد بروز تكتلات جديدة قد تعيد الغلبة للحزب الديمقراطي، في أحد مجلسي الكونغرس على الأقلّ، والشروع حينئذ بتهديد الرئيس ترامب بتقديمه للمحاكمة أو الاستقالة.

عدوان في سياق أوسع

استمرار القوات الأميركية بتعزيز عديدها وعتادها في المنطقة العربية، لا سيما وصول مدرّعات حديثة من طراز «آبرامز» و«برادلي» إلى الأردن، يشير إلى ترجيح احتمالات تدخل قوات برية أميركية، من جانب وعلى الجانب الآخر يشير الخبراء في الشأن العسكري إلى إدخالها القاذفات الإستراتيجية، بي 52 وبي – 2، إلى ساحة المعركة تهيئة لتسديد ضربة شديدة لقوات الدفاع الجوي السورية وإعلان منطقة حظر جوي. ربما كان هذا أحد سيناريوات المرحلة الماضية. بيد أنّ إحياء الحديث حولها في ظلّ تواجد معتبر للقوات العسكرية الروسية والإيرانية يشير إلى ما هو أبعد من مجرد التلويح بالصدام العسكري.

من بين المؤشرات التي تعزز احتمال التصادم العسكري استخدام الولايات المتحدة بعض أسلحتها قيد التجارب، أبرزها صاروخ «الضرب المشترك جو – أرض» أو جاسم الذي يطلق من مسافات بعيدة «لضرب أهداف عالية القيمة، ويتمتع بمواصفات التخفي «الشبح» يستخدم نظام تخطيط المهام وأجهزة استشعار تعمل بالأشعّة تحت الحمراء. من مواصفاته أيضاً قيام طائرات القاذفات الإستراتيجية، بي- 52، بإطلاقه من مسافة بعيدة عن مدى الدفاعات الأرضية تصل إلى 180 كلم يمكن إطلاقه نظرياً من مسافة 600 كلم ، وزيادة حمولته من الرؤوس الحربية بزنة 1000 رطل، وتحسين مداه إلى 1700 ميل. يرجح الخبراء أنّ ذاك الصاروخ هو ما كان يقصده الرئيس ترامب في تصريحه المفرط في التفاؤل بأنّ لدى ترسانة بلاده «صواريخ جديدة وذكية».

أسفر العدوان الأخير على سورية عن فعالية عالية لقوات الدفاع الجوي السورية، بطواقمها وأسلحتها، إذ استطاعت إسقاط بعضاً من أحدث صواريخ ترسانة حلف الناتو بمضادات سوفيتية الصنع، شيلكا و 2K12 Kub المصنوعة في عقد السبعينيات من القرن الماضي.

تصريح وزارة الدفاع الروسية عن الأسلحة السورية المستخدمة أشار بوضوح إلى تشغيل منظومات إس-125، إس-200، بوك و كفادرات من منظومات الاتحاد السوفياتي .

وأضافت الوزارة أنّ الدفاعات الجوية السورية استخدمت أيضاً نظم دفاعات روسية متطوّرة لحرف مسار الصواريخ الأميركية، منها نظام بانتسير ضدّ الصواريخ المستهدفة لمواقع الجيش العربي السوري قرب مصياف وحمص. أما المنظومة الأحدث إس- 300 فيعتقد أنها ستكون تحت أيدي الجيش السوري خلال أسابيع قليلة، حسبما أفادت وسائل الإعلام الغربية.

مرة أخرى، لا نزال نرصد تدفقاً للقطع البحرية الأميركية وأعضاء حلف الناتو الى مياه شرق المتوسط، مما يعزّز التكهّنات بأنّ واشنطن لا تزال تخطط لخيارات عدوانية تستهدف سورية على الأقلّ في الفترة المرئية الفاصلة حتى نتائج الانتخابات المقبلة.

الفشل حتى بالمهمة غير المعلنة

تغريدة ترامب بأنّ «المهمة أنجزت» كانت مدار سخرية من منتقديه وحتى بعض مؤيديه، ممن كانوا يرغبون بأن تكون عمليات القصف أوسع وأشدّ، رغم اعتقاده بأنّ العدوان سيغيّر من المانشيتات ومن التغطية الإعلامية المركزة على أكاذيبه ونفاقه وفضائحه. الإعلام الأميركي لم يُفرد تغطية واسعة للعدوان، لا بل أنّ معظم التغطية استقرّت على التحقيقات والفضائح التي تطاله تخللتها متابعة لأخبار العدوان.

وارتفعت الأصوات المندّدة والمنتقدة الداعية الى ضرورة أن يذهب الرئيس للحصول على تفويض من الكونغرس لشنّ عدوانه. كما ذكّره البعض ومن ضمنهم وزير الخارجية البريطاني السابق ميليباند بأنه أطلق على سورية صواريخه بعدد أكثر من رقم الـ11 لعدد السوريين اللاجئين الذي سمح لهم بدخول الولايات المتحدة. هذه الحقيقة تكشف زيف ونفاق ادّعاءاته بالحرص على السوريين وتعاطفه المزعوم على حياتهم ومعيشتهم.

يبقى أن نشير الى السيد أردوغان وموقفه المشين المتوقع بتأييد العدوان. يبدو أنه لا يفوّت الفرصة على تلبس الإهانة بسبب نزعته الغريزية للثأر من سورية، ولم تعُد تشفع له الأسباب التخفيفية تمنح له من وقت لآخر، بسبب اقترابه أحياناً من روسيا وإيران، مهاتراته اللفظية نحو واشنطن أحياناً لن تخرجه من حفرة المهانة والخزي التي سقط فيها.

مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى