قراءة في الوضع الاقتصادي وتأثيره على الانتخابات في تركيا

د. هدى رزق

كان التوقيت المناسب للانتخابات البرلمانية والرئاسية طيلة حكم حزب العدالة والتنمية يتمظهر في فترة الحيوية الاقتصادية، أيّ فترات النمو الاقتصادي المرتفع المرتبط بارتفاع التوقعات الإيجابية للمستهلكين والمنتجين التي ترضي الناخبين.

لكنّ إعلان إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في 24 حزيران/ يونيو المقبل جاء مدفوعاً بمجابهة الانكماش الاقتصادي وهي الأزمة التي يتوقعها العديد من الخبراء الاقتصاديين في تركيا.

جرى الحديث عن انتخابات مبكرة منذ شهور، أيّ في أوائل كانون الثاني، وعن ترجيح قيام حزب العدالة والتنمية إجراء انتخابات تترافق مع النمو المرتفع 7.4 في المئة وعكست الاستطلاعات شعوراً متفائلاً بين المستهلكين والمنتجين على حدّ سواء.

لكنّ التوقعات تدهورت، بسبب تشاؤم المستهلكين والفاعلين الاقتصاديين بشأن أيّ تحسّن في معدّلات التضخم والبطالة، والامتناع عن الاستثمار والإنفاق في المستقبل القريب، ورأوا احتمالاً ضئيلاً لانخفاض عجز الحساب الجاري.

وكانت وكالة التصنيف الائتماني الدولية «موديز، قد خفضت في شهر آذار «التصنيف الائتماني السيادي لتركيا، مشيرة إلى ازدياد هشاشة البلاد وعدم التأثر بمعدلات نموها.

قد يكون هروب المستثمرين الأجانب توضيحاً مبالغاً فيه يتجاهل الزيادة في الطلب المحلي في بعض الحالات على العملات الأجنبية. وكما توضح حالة تركيا، فإنّ العوامل المحلية تكون أحياناً أكثر قوة في التأثير على الاتجاه. ولا تقدم البيانات الحالية دعماً يذكر للمطالبات بأنّ تحركات الأجانب هي المحرك الرئيسي لدفع أسعار صرف العملات الأجنبية.

في الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، خسرت الليرة حوالي 7.5 في المئة من قيمتها مقابل الدولار. فالشركات الخاصة تدير حالياً عجزاً صافياً في الصرف الأجنبي قدره 211 مليار دولار، وكلّ زيادة في أسعار العملات الصعبة تعني زيادة الديون من حيث الليرات التركية. وفي الوقت نفسه، بلغت نسبة المدخرات المحفوظة في حسابات العملة الصعبة حوالي 45 في المئة، حيث يسعى الأتراك إلى اللجوء إلى العملات الأجنبية لحماية مدخراتهم من هبوط الليرة.

السبب يعود في شقّ منه إلى الطريقة التي تحقق بها النمو الاقتصادي في العام الماضي. حيث جرى التوسُّع على الحوافز الحكومية المتطرفة ويمكن اعتبارها بمثابة منشطات، فالتضخم في أسعار المستهلكين هو فوق 10 في المئة والزيادة في أسعار المنتجين خلال عام أعلى من ذلك 15 في المئة، فالمدخلات المستوردة أصبحت أكثر تكلفة بالنسبة للمصنعين بسبب انخفاض الليرة.

سيكون من الإنصاف القول إنّ الديناميكية الرئيسية التي تؤثر على أسعار العملات الصعبة داخلية. وهذا يعني أنّ الجهات الفاعلة الاقتصادية المحلية، من المدخرين الصغار إلى الشركات الكبرى، قد تخلت عن الليرة التركية لصالح الدولار واليورو، ويرون أنهما ملاذ آمن. كما ساهمت الشركات الخاصة التي تدير عجوزات الصرف الأجنبي في زيادة الطلب.

بلغ إجمالي الديون المستحقة على البنوك المحلية والمؤسّسات المختلفة في الخارج 223 مليار دولار في شباط، بزيادة 14 في المئة من 189.5 مليار دولار في العام الماضي. وتعني كلّ زيادة في أسعار العملات الصعبة زيادة في المبلغ الذي يجب على تلك الشركات تأمينه في الليرات التركية لتسديد ديونها بالعملات الأجنبية. وهذا يضرّ بميزانياتها العمومية، والتي تزعج البنوك بشكل خاص. ومن ثم، فإنّ الشركات المثقلة بالديون تسعى جاهدة إلى جمع النقد الأجنبي للحدّ من التزاماتها، مما يمثل عاملاً محلياً رئيسياً في الطلب المتزايد.

بلغت المدفوعات إلى العمال 34.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي، بانخفاض من 36.5 في المئة في عام 2016، حيث أن الاقتصاد نما على حساب العمال في البلاد البالغ عددهم 19 مليون نسمة. وكان التوسع في القروض المضمونة من جانب الحكومة طريقاً آخر للنمو، لكنّ القطاع المصرفي أصبح الآن قلقاً حيال القروض المعدومة وهو متردد في إصدار قروض جديدة.

أدّى ارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية إلى رفع العائدات على العملة الوطنية. ومع ذلك، واجهت محاولات البنك المركزي لرفع أسعار الفائدة اعتراضات شديدة من الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي ضغط لفترة طويلة لخفض تكاليف الاقتراض.

وقد أدّت الزيادة غير الكافية في معدلات الفائدة مقابل التضخم إلى اندفاع العملات الأجنبية بين أصحاب الأموال المحليين والأجانب، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار وإلى المزيد من الإخلال بالتوازن الاقتصادي.

وفي 25 نيسان، قام البنك المركزي برفع سعر الفائدة الرئيسي، ولكن حتى الزيادة التي بلغت 75 نقطة كانت غير فعّالة في ذلك الوقت في كبح العملات الأجنبية.

الأسباب الخارجية واضحة منها النمو في الولايات المتحدة وارتفاع أسعار الفائدة التي أدّت إلى دفع الأموال العالمية للبدء في الانسحاب من الدول الناشئة مثل تركيا، التي لديها مخاطر متزايدة بسبب مشاركتها في الحرب السورية.

لكن حالة الطوارئ القائمة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز 2016 شكلت مشكلة اقتصادية أثارت مجتمع الأعمال بحيث اشتكت الجمعية التركية للصناعة والأعمال أكثر من مرة، من أنّ حالة الطوارئ تزعج المستثمرين الأجانب، ولكن من دون جدوى.

فشل النمو في تعزيز الثقة الاقتصادية كما أرادت الحكومة، وتزامنت المشاكل الاقتصادية في تركيا مع وصول حزب «الجيد» بقيادة ميرال أكشنر ويبدو أنّ هدف الحزب أن يصبح قوة يمين الوسط الرئيسية لتركيا وإغراء الناخبين من قاعدة حزب العدالة والتنمية.

وحذر الرئيس السابق عبد الله غول، من مشكلة اقتصادية «خطيرة» آتية لا محال حيث تواجه تركيا صعوبات كبيرة في الظروف الداخلية والخارجية الحالية. وقال «إنّ تركيا تواجه أعظم مشاكل البقاء على قيد الحياة في تاريخها. ويرى أنّ المشكلات الاقتصادية وصلت إلى مستويات خطيرة أيضاً.

لا يثق الاقتصاديون في ما إذا كان صانعو السياسة سيزيدون معدلات الفائدة في اجتماعهم في السابع من حزيران المقبل، لأنّ البنك المركزي يواجه ضغوطاً من أردوغان لإبقاء معدلات الفائدة منخفضة. يريد أردوغان، الذي أعلن نفسه «عدواً لأسعار الفائدة»، ائتمانات رخيصة لنمو الطاقة.

في ظلّ هذه الاوضاع أعلنت الحكومة حزمة الحوافز قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية الحاسمة في 24 حزيران، وبدا أنّ نطاق الحزمة واسع للغاية بحيث أنه يهمّ جميع السكان تقريباً. يبدو أنّ حزب العدالة والتنمية، قد أبدى استعداداً لتنفيذ مقترحات كان قد طرحها حزب الشعب الجمهوري قبل انتخابات 2015 وتعرض لها حزب العدالة بالنقد والسخرية. رفعت الحكومة الحدّ الأدنى للأجور، والآن، قبل أقلّ من شهرين من الانتخابات، قرّرت منح مكافآت للمتقاعدين قدرها 1000 ليرة حوالي 240 دولاراً .

ووفقاً للتقرير الذي قدمته صحيفة «صباح»، فإنّ حوالي 12 مليون من المتقاعدين وأعضاء قوات الأمن من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأقرباء الجنود والشرطة الذين استشهدوا سيستفيدون من علاوات الليرات التي تبلغ 1000 ليرة.

حوالي 600 ألف من كبار السن سوف يرون أنّ علاواتهم الشهرية ستتضاعف إلى 500 ليرة حوالي 120 دولار . وسيحصل حوالي 13 مليون مبنى على فرصة للتسجيل، في حين يقدر عدد الطلاب الذين سيشملهم العفو والذين تمّ فصلهم لأسباب متعدّدة إلى 500 ألف شخص.

كما تقوم الحزمة بإعادة هيكلة لمختلف الديون التي يدين بها المواطنون للدولة، بما في ذلك الضرائب، وأقساط التأمين الاجتماعي، والغرامات المرورية، ورسوم الطرق السريعة.

وفقاً للتقرير، سيتمّ تمديد فترة السداد إلى 36 شهراً، ويحقّ للذين يختارون السداد في دفعة واحدة الحصول على خصم 90 في المئة من الرسوم المتأخرة. تشمل الحزمة زيادة بنسبة 16 في المئة أعلى من معدل التضخم ـ في السعر الذي ستشتري به الدولة محاصيل الشاي، وهي الدعامة الأساسية لملايين الأشخاص في منطقة البحر الأسود. فيما اعتبرت، ميرال أكشنر زعيمة حزب الجيد المعارض أنّ الحزمة تعكس خوف الحكومة في مواجهة معارضة قوية.

لا شكّ في أنّ حكومة جديدة مدعومة بمباركة شعبية ستزيل بعض الشكوك. ومع ذلك، من المرجح أن تستمرّ فترة «الانتظار والترقب»، لأنّ معادلة القوة السياسية أصبحت معقدة إلى حدّ ما قبل الانتخابات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى