جدليات

جدليات

الهويّة جوهر الشيء وحقيقته، وقد عرّفها الجرجاني في كتابه التعريفات: «هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب».

لا نريد أن ندرج تعريف الهويّة على منوال الكلّيات المجرّدة مثل مفاهيم الحياة والوجود والحرّية والخير والعدالة وغيرها. فما زال مفهوم الهويّة يستفزّ بحضوره وملفوظه أنظمة العقل التي ألفت الأداتية والحسابية والتقنين والنهائية. لذا سنفصّل قليلاً في تعريفها.

هويّة الإنسان هي ثوابته تتجدّد ولا تتغير تفصح عن ذاتها من دون أن تخلي مكاناً لنقيضها، وهي التي تحدّد ثقافة الإنسان وعاداته وقيمه وعقيدته، وتصوغها كلّها في أطر تكرّس انتمائه لهذه الثقافة والقيم على المستوى المعنوي وتضيف له انتماء جغرافياً تحدّده الحدود الجغرافية.

في المفهوم الفلسفي، فإنّ ذات الإنسان هي هويته، وهي كلّ ما يشكّل شخصيته من مشاعر وأحاسيس وقيم وآراء ومواقف وسلوك. بل كلّ ما يميّزه عن غيره من الناس وبحسب تعريف إريكسون: «هي نوع من الإحساس والشعور بوحدة الشخص بين الفرد والجماعة». لا يمكن لماهية الهويّة أن تُردّ إلى مجرد تعريف اسمي فالهوية انتماء، وتبدأ مسيرة الهويّة تصاعدياً من الهويّة الشخصية للفرد إلى الهويّة الاجتماعية والتي تعد محصّلة التفاعلات بين الفرد ومحيطه الاجتماعي القريب والبعيد. فالعلاقة وطيدة بين الهويّة والانتماء تبدأ بانتماء الأنسان لنفسه وسعيه ليكون الأفضل، ثمّ انتمائه لأسرة تضمن له حقوقه، ثمّ انتمائه للمدرسة التي يتلقى منها العلم فالجامعة والأهم أن توصله جميعها إلى انتمائه للوطن. هويّة الوطن تاريخه وجذوره. فالوطن ليس حيّزاً جغرافيّاً نعيش فيه وحسب. الوطن ثقافة وحضارة جذور وتقاليد.

أمين معروف قال: «الهويّة لا تتجزّأ ولا توزّع أنصافاً ولا أثلاثاً أو مناطق منفصلة».. عندما يشعر الإنسان بالانتماء الحقيقي تنغرس بذور محبة الوطن تلقائياً داخل صدره. هذه العلاقة الإيجابية والحياتية التي تؤدي إلى التحقق المتبادل تنتفي منها المنفعة بمفهوم الربح والخسارة، وترتقي إلى العطاء بلا حدود الذي يصل إلى التضحية ويتجلى الانتماء بصورة عالية عندما يتعرض الوطن لأي عدوان سواء أكان داخلياً أم خارجياً وهو مانلحظه اليوم. من ضحّوا دفاعاً عن الوطن لا بدّ أنّ شعور الانتماء لديهم متجذر وليس مكتسباً. فالهويّة لا تتشكل بعنصر واحد، كأن يكون العقيدة الدينية أو الانتماء العرقي لوحده، فثمّة روابط حتمية ومصيرية تدخل في تكوين الهوية أهمها المصير المشترك.

إنّ حماية الهويّة المتشكلة من كل عناصر الطبيعة ليس أكثر من حماية حقوق الإنسان الطبيعية وما يترتب عليها من إعلاء شأنه كإنسان بالدرجة الأولى. والأمر نفسه مع هويّة المجتمع منتظم تحت لواء نظام موحّد وعلائق وطنية موحّدة. ليس هو أكثر من حماية للحق الطبيعي لهذا المجتمع في أن يعيش حياته بانسجام وتماسك، عارفاً طريقه مهتدياً إلى حقوقه وواجباته.

صباح برجس العلي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى