«وول ستريت جورنال»: بعد قضائه على المعارضة… السيسي في طريقه للسيطرة على الاقتصاد

على خطى حسني مبارك، اعتمد السيسي على دولة أمنية واسعة ونهج اقتصادي يمنح الجيش امتيازات تفضيلية.

قال جاريد مالسن في مقال له في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية إن إمبراطورية الجيش المصري الاقتصادية قد توسعت بشدة تحت حكم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، مما تسبب في حالة من الاستياء لدى الرأي العام المصري. وأوضح مالسن أن الرئيس المصري دشن قبل ثلاث سنوات مشروع العاصمة الإدارية الجديدة الطموح المزمع الانتهاء منه بحلول عام 2022، واعداً بتوفير منازل لخمسة ملايين مصري، واحتواء العاصمة على أعلى بناية في أفريقيا.

لكن الكاتب يشير إلى مصادر عسكرية تشرف على المشروع والتي تؤكد الآن أنه متأخر بشدة عن الموعد المحدد. فالبناية الوحيدة المكتملة هي فندق مملوك للجيش. وكان المتحدث باسم المشروع خالد الحسيني قد قال إن مرحلة واحدة فقط من ثلاث مراحل هي قيد الإنشاء: «لم نخطط لأي شيء آخر غير المرحلة الأولى، يجب أن أكون صادقاً».

كان قد أعيد انتخاب السيسي في آذار بنسبة 97 في المئة من الأصوات في انتخابات صورية. إذ كان رجل مصر القوي قد سجن أي مرشح معارض ذي مصداقية أو عزله من السباق. في العالم العربي، يشكل استمرار حكم السيسي مثالاً على الأنظمة التي تستعيد نشاطها وتؤكد انتصارها على القوى التي أشعلت «الربيع العربي» في عام 2011.

لكن مصر هي أيضاً مثال على وجود نيران أسفل الرماد ـ يشدّد مالسن. إذ إن طريقة حكم السيسي تشبه إلى حد بعيد طريقة حكم الرئيس السابق حسني مبارك، الذي أطيح به بعد قرابة ثلاثة عقود من الحكم بانتفاضة شعبية. على خطى السيد مبارك، اعتمد السيسي على دولة أمنية واسعة ونهج اقتصادي يمنح الجيش امتيازات تفضيلية. ويشكو كثيرون في قطاع الأعمال التجارية من أن السيسي ذهب إلى أبعد من ذلك في تهميش المشاريع الخاصة، مما ألحق الضرر بالاقتصاد.

«إنهم يثقون بالجيش أولاً. ويقبلون بوجود القطاع الخاص»، قالها نجيب ساويرس، الملياردير الذي يشتكي من أن بعض خططه التجارية المصرية قد أحبطت بسبب تدخل الدولة. وأضاف: «يمكن لأجهزة الأمن حظر أي مشروع. فلديهم شركات خاصة بهم الآن. إن الوضع سيئ».

يؤكد البنك المركزي المصري أن اقتصاد البلاد ينمو بمعدلات متواضعة تبلغ حوالي 5.4 في المئة. لكن بالنسبة إلى الغالبية العظمى من المصريين، فإن مستويات المعيشة قد تراجعت وسط ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب وارتفاع أسعار المواد الغذائية، ما غذّى المظالم نفسها التي سبقت «الثورة» ـ وأثار احتمال تكرارها.

اجتاحت التظاهرات منطقة الشرق الأوسط مؤخراً بسبب التضخم والضيق الاقتصادي ـ ينوه مالسن. ففي إيران، ومع نهاية 2017 وبداية السنة الحالية، اندلعت الاحتجاجات لمدة أسبوع وخلّفت 20 قتيلاً على الأقل. وفي تونس، أدت تخفيضات الميزانية إلى حدوث تظاهرات صاخبة واشتباكات مع قوات الأمن في عشر مدن وبلدات تزامنت مع ذكرى الإطاحة بزين العابدين بن علي. أما في الأردن، فقد أقيمت اعتصامات واحتجاجات مع بداية العام باعتبارها ردّ فعل على ارتفاع سعر الخبز. كما اندلعت احتجاجات عفوية في مصر في وقت سابق من هذا الشهر بعد أن أعلنت الحكومة زيادة مفاجئة في أسعار تذاكر مترو الأنفاق.

تحظى حكومة السيسي بدعم مطلق من ممالك الخليج بوصفها جداراً نارياً ضد وقوع أي انتفاضات شعبية أخرى ـ يواصل مالسن كلامه. إذ صرّح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال زيارة إلى القاهرة في آذار: «دعوتُ الله ألا تنهار مصر».

كان السيسي ـ وزير الدفاع السابق ـ قد تولى السلطة بعد أن قاد انقلاباً عسكرياً أطاح بالرئيس محمد مرسي في عام 2013. وفي أعقاب الانقلاب، شنت قوات الأمن حملة ضد مؤيدي السيد مرسي وغيرهم من المعارضين السياسيين، ما أسفر عن مقتل ألف شخص على الأقل وسجن عشرات الآلاف من الأشخاص الآخرين، وفقاً لجماعات حقوقية.

زعم السيسي أنه حمى مصر من الانزلاق في الاضطرابات والحروب التي اجتاحت الدول العربية الأخرى مثل سورية وليبيا واليمن، ووعد المصريين بحياة ملؤها الرفاهية والازدهار. وقد تمتع السيسي بشعبية جارفة في بداية حكمه. إذ لجأ أنصاره إلى صناعة دمى وحلوى من الشوكولاتة تقتبس شكله.

لكن شعبيته تآكلت مع مرور الوقت ـ يستدرك مالسن. إذ ما زالت البلاد تعاني من انعدام الأمن حيث تكافح الحكومة لوقف هجمات الجماعات المسلحة، بما في ذلك تنظيم «داعش» الذي قتل مئات الجنود والمدنيين في السنوات الأخيرة.

لم يقتصر الاستياء على الأوساط الشعبية، بل إنه قد امتد حتى إلى داخل المؤسسة العسكرية نفسها التي جلبت السيد السيسي إلى السلطة. فمنذ كانون الأول، قامت الحكومة باحتجاز وتهميش مجموعة من المعارضين الذين تقدموا للطعن في الانتخابات الرئاسية، بما في ذلك ثلاثة ضباط عسكريين حاليين وسابقين.

وعلى الرغم من أن السيسي رسّخ قبضة الجيش المصري على الاقتصاد، فإن المرشحين المحتملين من خلفيات عسكرية هاجموا سجل الرئيس في الأمن والاقتصاد وانعدام الحرّيات السياسية. ولكن لم يستجب مكتب السيد السيسي لطلب التعليق من صحيفة «وول ستريت جورنال». كما رفض المتحدث باسم القوات المسلحة المصرية التعليق.

ينقل مالسن عن بعض المحللين اعتقادهم أن السيسي يرى نفسه جزءاً من مجموعة عالمية من الحكام الأقوياء. فقبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، هنأ السيسي الروسي فلاديمير بوتين على فوزه في الانتخابات الهزلية. كما أشاد بالرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي أصبح زعيم الصين الفعلي مدى الحياة.

لطالما كان للجيش المصري دور رئيس في الاقتصاد منذ عام 1952 ـ يكشف مالسن. إذ ساعدت المشاريع التجارية القوات المسلحة على تعويض التخفيضات في الميزانية التي فرضها السيد مبارك في السنوات التالية لمعاهدة السلام عام 1978 مع «إسرائيل». وبحلول نهاية حكم مبارك، امتلك الجيش محلات السوبر ماركت والفنادق ومصانع المعكرونة بالإضافة إلى الأسلحة، مستغلاً وضعه المعفى من الضرائب والوصول إلى العمالة الرخيصة على شكل الجنود المجندين.

لكن إمبراطورية الجيش بلغت مستويات جديدة من القوة الاقتصادية. ويؤكد مالسن أنه من المستحيل حساب النسبة الدقيقة من الاقتصاد التي تسيطر عليها القوات المسلحة، حيث لا تكشف الشركات المرتبطة بالجيش عن أرباحها ولا يتم الإعلان عن تفاصيل ميزانية الجيش. إن الرقابة المحاسبية على أي هيئات حكومية أصبحت أكثر صعوبة الآن، لأن رئيس أكبر هيئة رقابة في مصر ـ الجهاز المركزي للمحاسبات ـ يخضع للمحاكمة العسكرية بعد أن انضم إلى حملة رئاسية معارضة وهدد بالإفراج عن أدلة تدين قيادات عسكرية.

لكن السيسي زعم في مقابلة مع تليفزيون الدولة في آذار أن الجيش يشكل فقط بين 2 في المئة إلى 3 في المئة من الاقتصاد. وقال: «لو كانت النسبة 50 في المئة لكنت فخوراً. فالقوات المسلحة هي جزء من الحكومة». ويعتقد الخبراء أن الحجم الحقيقي للدور الاقتصادي للجيش أعلى بكثير من الرقم الرسمي، استناداً إلى ملاحظات المؤسسات التي يقودها الجيش.

«إنه لا يثق في القطاع الخاص». يقول أندرو ميلر، المسؤول السابق عن ملف مصر في مجلس الأمن القومي الأميركي، ويضيف: «ولا يثق في رجال الأعمال».

مشروع شق تفريعة قناة السويس الجديدة

اعتمد السيد السيسي على الجيش للمساعدة في إصلاح الاقتصاد المتعثر ـ يقول مالسن ـ إذ كلف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بتنفيذ مشروع توسعة قناة السويس، أحد المشاريع العملاقة التي دشنها.

وسرعان ما تعدى الجيش على الشركات المدنية بدعم كامل من السيسي. ألغت الحكومة خطة مدنية بتفريغ الأراضي على طول القناة لبناء منطقة صناعية ومنطقة ميناء. وقال أحمد درويش، الرئيس السابق لمنطقة قناة السويس الاقتصادية، إنه بدلاً من ذلك منح عقدين، بما في ذلك عقد شراكة بين الجيش ومطور خاص. وحتى الآن، لم ينجز المشروع، رغم أن الحكومة تقول إنها تمضي قدماً فيه.

عُيّن الفريق مهاب مميش، القائد العسكري الذي يرأس أيضاً هيئة قناة السويس، بديلاً للسيد درويش. وقد غادر العديد من المسؤولين المدنيين المهتمين بالأعمال التجارية حكومة السيسي طوال حكمه، بما في ذلك خبيرين اقتصاديين خدماً في وزارات سابقة، ما زاد من هيمنة الجيش.

ويؤكد مالسن أن لدى الجيش شبكة منتشرة من الضباط الحاليين والسابقين الذين يترأسون مجالس إدارات عدد من الشركات ويمتلكون حصصاً في شركات خاصة. وهذا يساعد الطبقة العسكرية على التحكم في الأرباح وتحقيق الربح حتى من الشركات التي لا تمتلكها بشكل مباشر.

تقول شانا مارشال، الخبيرة في الاقتصاد السياسي المصري في جامعة جورج واشنطن: «لديهم حصة في كل فطيرة».

امتدت أذرع المؤسسات العسكرية والأمنية إلى ساحة الإعلام ـ يؤكد مالسن ـ لتستحوذ على ما لا يقل عن ثلاث قنوات تليفزيونية خاصة كبيرة خلال العامين الماضيين. تولى متحدث عسكري سابق المسؤولية عن قناة العاصمة الفضائية في كانون الثاني 2017. واستولت شركة أمنية برئاسة مسؤول استخبارات عسكري سابق على قناة الحياة التلفزيونية في منتصف عام 2017.

أدى الاستيلاء على تلك القنوات إلى تقليص نفوذ بعض أقوى رجال الأعمال المدنيين في مصر. يقول السيد ساويرس، المالك السابق للشبكة الشهيرة أون تي في، إن الحكومة طلبت منه طرد ثلاثة على الأقل من المراسلين الإخباريين. وعندما رفض، تم الاستيلاء على الشبكة من قبل رجل أعمال موال للحكومة وهو أحمد أبو هشيمة، قبل بيع أسهمه لشركة مملوكة لجهاز المخابرات المصري في عام 2017.

وقال السيد ساويرس إن قوات الأمن أعاقت خطط الأعمال الخاصة بالقطاع الخاص. وأن محاولاته للاستحواذ على شركة الاستثمار «سي آي كابيتال» قد تم عرقلتها من قبل الأجهزة الأمنية في عام 2016. ولم تستجب «سي آي كابيتال» لطلب الحصول على تعليق.

كما عرقلت أجهزة الأمن المصرية محاولة شركة «آرتشر دانييلز ميدلاند» للاستحواذ على شركة مصر الوطنية لمنتجات الذرة ـ التي اندمجت لاحقاً مع شركة مصرية أخرى ـ العام الماضي، وفقاً للسيد ساويرس. وقد أكد شخص مطلع على المسألة أن الجهات التنظيمية المصرية منعت الاستحواذ المخطط له.

كما أصدرت الحكومة في عهد السيسي قوانين تسهل على القوات المسلحة القيام بأعمال تجارية ـ يواصل مالسن كلامه. ورسخت الحكومة نفوذ الجيش في مجال العقارات وأذنت له بتشكيل شركة أدوية.

وعندما أدّى تعويم العملة إلى نقص في السلع الأساسية مثل السكر في عام 2016 ـ يؤكد مالسن ـ انتشرت شاحنات تابعة للجيش لبيع الطرود المدعومة من المواد الغذائية. شمل ذلك بيع حليب الأطفال بخصم من خلال الصيدليات، واعتبر هذا انتصاراً على القطاع الخاص. وقال المتحدث العسكري في بيان مكتوب في أيلول 2016: «لقد وجّهت القوات المسلحة ضربة ضد الاحتكار الجشع للتجار والشركات العاملة في صناعة الألبان».

ويبقى أوضح تجلٍّ لإمبراطورية الجيش المصري المتمددة هو مجموعة واسعة من مشاريع البنية التحتية ـ يضيف مالسن ـ بما في ذلك الطرق والمباني السكنية، مثل مبادرة وطنية لبناء مليون وحدة سكنية في جميع أنحاء البلاد. ويقول خبراء إن الأنظمة الجديدة سمحت للمتعاقدين المرتبطين بالجيش باحتكار فعلي لعقود البناء العامة.

إن ما يسمى بـ«العاصمة الإدارية الجديدة» هو جوهرة تلك المشاريع. أعلنت الحكومة في عام 2015 أنها تأمل في جذب خمسة ملايين من السكان، مما يخفف من الاكتظاظ في القاهرة الكبرى، التي تضم حالياً ما يقدر بنحو عشرين مليون شخص. يعيش الملايين منهم في الأحياء الفقيرة والعشوائيات مع وصول غير منتظم للخدمات الحكومية.

وقد منحت المدينة الجديدة المخطّط لها فرصة للجيش لاستعراض عضلاته الاقتصادية. فعندما انسحبت شركة حكومية صينية من صفقة قيمتها ثلاثة مليارات دولار لبناء مبان حكومية في الموقع في عام 2016، عرضت الهيئة الهندسة للقوات المسلحة إكمال البناء بنصف السعر من خلال عقود من الباطن، وفقاً للسيد حسيني.

وأعلنت الحكومة المصرية عن بدء بناء منطقة تجارية في العاصمة الجديدة تضم ناطحة سحاب مساحتها 1263 قدماً وهو المبنى الأطول في أفريقيا إذا اكتمل. لإكمال هذا الجزء من المدينة، قامت الشركة المدعومة من الجيش بالإشراف على التعاقد مع شركة «الصين للإنشاءات الهندسية».

وعادت لوحات مجموعة طلعت مصطفى للظهور على الطريق الصحراوي المؤدّي إلى المدينة ـ يقول مالسن ـ وهي واحدة من أكبر الشركات المنخرطة في المشروع. قامت شركة هشام طلعت مصطفى ـ العضو السابق في الحزب الوطني الديمقراطي التابع لمبارك ـ بضخ حوالى مليارَي دولار في العاصمة الجديدة بعد تبرئة مالكها من عدد من الدعاوى القضائية.

كانت محكمة جنايات القاهرة قد أدانت مصطفى بتوظيف ضابط شرطة سابق لقتل المطربة اللبنانية سوزان تميم في فندق في دبي عام 2008. وقد جعلت المحاكمة السيد مصطفى رمزاً لما اعتبره الكثيرون ثقافة المحسوبية في سنوات مبارك.

وفي حزيران 2017، أصدر السيسي عفواً عن السيد مصطفى وسمح له باستعادة منصبه بوصفه رئيساً تنفيذيّاً لشركته «تي إم جي». وذكرت الشركة في وقت لاحق أن إيراداتها زادت بأكثر من الضعف بعد إطلاق سراح السيد مصطفي ومشاركتها في المشروع الجديد الذي يقوده الجيش.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى