… ولم يزل فتياً

عبير حمدان

بلغ الحدث سنّ الرشد ولم يزل في بلادي أناس لا يفقهون معنى أن يمتزج التراب بالدماء، وأن تكتفي الأمّ بوردة ودمعتين، وأن يشرق الصبح حراً بلا أسلاك شائكة وقيود اعتقال.

على هذه الأرض حكايا تتفوّق على انسياب الحبر بين صخرتين حيث تنبت الزهور ويعربش الياسمين ويفوح عبق زهر الليمون وتختال شتلة التبغ على إيقاع الأيادي السمراء.

ثمانية عشر عاماً من عمر التحرير وبعض إعلامنا يتلهّى بزفاف ملوكي وبرامج ترفيهية ومنهم من يبحث عن قصص يمنحها الصفة الاجتماعية وفي باطنها الكثير من الإسفاف والاستعراض والمبالغة لغايات تجارية.

في زمن انقلاب المقاييس يصبح الصمود قصة خرافية قد لا تجد طريقها إلى بعض العقول الفتية المنشغلة بتطبيقات هواتفها الذكية ويصبح فعل التحرير من قيد المحتلّ محطة تعبر في ذاكرة الجهات الرسمية والإعلامية مرور الكرام كمن يشير إلى مناسبة مؤطرة بتقرير أو دعوة ليوم عطلة عادي ويحدث أن تسأل جزء من هذا الجيل عن أهمية الحدث وتفاصيله ليأتي الجواب فارغاً من المضمون، وقد لا يعرف الكثير من أبناء التكنولوجيا حقيقة ما تحقق على أرض الجنوب اللبناني ذات أيار…

ليس فعل تهميش رمزية الحدث وما سبقه وتلاه بالأمر البريء، بل هو أمر مدروس منذ بدأ جيش الاحتلال يجرّ ذيول هزيمته ويغلق بوابة التحرير فيما عملاؤه يبحثون عن مخرج يجنّبهم القصاص ومنهم من تعلق بمركب المحتلّ ليضاعف ذنوبه ويصبح رقماً خاسراً على أرض فلسطين التي تنتظر راية النصر ولو بعد حين.

أن نكتب عن التحرير وما سبقه من صمود ففي ذلك غوص في قلب التاريخ وتحفيز على أهمية الجغرافيا الطبيعية لبلاد حاول المستعمر كسر إرادة شعبها بالتقسيم، وبحثٌ عن روح الأمكنة التي تمتلك مقدرة التعبير ولو بصمت، واليوم بلغ النصر عامه الثامن عشر ولم يزل فتياً رغم كلّ ما مررنا به من ويلات، ثمانية عشر عاماً ولم يبتلع الكيان الصهيوني مخرز هزيمته، حاول الانتقام بعد ست سنوات لكنه عاد أكثر وهناً، ولم يزل الحساب مفتوحاً إلى ما بعد النصر، ولم يزل أهل القرى يذكرون معاناتهم وصبرهم وصمودهم، ولم تزل أوراق إعلاميّي المرحلة شاهدة على حقد المحتلّ ولحظة اندحاره وما تلاها من عربدة بلا طائل، ولم تزل جراح الأسرى دربنا إلى اليقين بأنّ المقاومة حقّ نحميه بالنبض والحبر وواجب نُسأل عنه يوم تزلزل الأرض زلزالها…

والمقاومة ليست حكراً على فئة دون سواها إنما هي فعل وجود وبذرة مغروسة في قلب كلّ مواطن حرّ ومؤمن بحقه في الوجود، المقاومة نمط حياة وثقافة ونهضة وقيّم متجذرة في الذات البشرية ولأننا أبناء حضارة حقيقية ندرك أنّ عدونا أضعف من فعل المواجهة مهما عربد وقتل ودمّر.

ثمانية عشر عاماً من عمر التحرير ولا يريد بعض المرتهنين لإنظمة «الاعتدال» من دُعاة التطبيع الذي بات علنياً الاعتراف بأنّ زمن الإنكسار قد ولى إلى غير رجعة وبأنّ النصر المكتوب بمداد الشهادة والمتعمّد بعرق الصمود لن تقوى عليه كلّ العقوبات الخرافية والفبركات الإعلامية الرخيصة والقرارات الحمقاء والتهويل العسكري.

هو زمن النصر الذي يرسم خريطة القادم من الأيام يمكن أن نلمحه في عيون الأطفال حين نخبرهم عن درب التحرير الذي مشيناه مع أهالي القرى ووثقناه في دفاترنا، هناك على أرض الجنوب كان الصبح مختلفاً، حتى الغبار المتناثر جراء تسابق الناس لفتح بوابة التحرير بلغ مرتبة القداسة، هو النصر الذي نلمحه بين التجاعيد التي لا يحتاج أصحابها إلى عمليات تجميل، هو النصر الذي يمتد إلى ما بعد المكان والزمان يلغي الحدود ويُسقط جواز السفر ويثبت زيف البيانات المنمقة.

ثمانية عشر عاماً من عمر التحرير ويكفي أن نقرأ الواقع بثقة المنتصر لنضيء الشموع في كلّ الميادين ونرفعها في وجه الريح لنغرسها على أرض فلسطين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى