«كرسيّ اعترافي» للشاعر مردوك الشامي… مدوّنة سطّرتها الغربة

رنا صادق

«أنا كلّما علّيت قصراً في الرمال

اشتقت لو كوخاً فقير الحال

في شمس البلد.

أنا ألفُ مخلوق غريب في جسد..

ثم حيناً…

لا أحد».

إن عُدتَ وقرأتَ هذه الكلمات المسطّرة مع دندنة خفيفة من أنغام لحنٍ مصريّ مألوف، تجد نفسك تعيده مرة، ثم أخرى، كما حصل معي حين وقع ناظري على ظهر ديوان «كرسيّ اعترافي» للشاعر والإعلامي مردوك الشامي، الصادر حديثاً عن «دار ناريمان للنشر والطباعة والتوزيع».

يتمهّل في إسدال معاني قصائده، ويترجم بذلك تجاربه، هو عبارة عن ذكريات، حفرتها الأيام والأمكنة، لمستها مشاعرها وآلامه، لحقتها أحلامه أينما حلّ، وحقّقتها شخصيته الوافية، إلى أن لمسه الواقع كما هو.

الحال في ديوان «كرسيّ اعترافي» ليس كحال أيّ ديوان، هو جمع الأحوال فيه، وسكون العالم أيضاً فيه، فيه بعض الكلام حنيناً وبعضه خبزاً للأنين، ضاق فيه تارةً وتوسّع تارة أخرى، عانقته الحياة هناك وضربته بكفّها هنا، عايش غربة الوطن وعانى غربة الغربة. هو الشاعر مردوك الشامي الذي مسقط رأسه سورية ومسقط شعره لبنان، عمل في مجال الإعلام المرئي والمكتوب منذ أكثر من ثلاثين عام.

المتّهم البريء «كرسيّ اعترافي»، عنوان القصيدة الأبرز في المجموعة وثمة قصائد عديدة فيها الاعتراف الصريح الذي يأتي طوعاً وبلا ضغوطات مخابراتية أو اجتماعية أو حتى كنسية، الاعتراف أحياناً يطهّر الروح، يغسلها من الإثم، وحين يأتي الاعتراف شعراً يكون أشبه ببوح صامت، أو كما يمشي النائم على وسادة الهواء، لا يلامس أرضاً ولا يقرب الأعالي وهذا ما يبرز من اختيار الشامي لعنوان ديوانه.

غلافه الأسود والأبيض خيّمت عليه روح السكون، ذلك السكون حين يكون المتّهم بريء، إلى حين إثبات براءته، وعيونه على زواية الغلاف العليا تسحبك للذهول، وما فيها من اعترافات وسكون. أفِعلاً «كرسيّ اعترافي» اعترافٌ حقيقي أم أنّك احتفظت ببعضه لنفسك أيها الشاعر؟ أعايشت ألماً لم تخبرنا به؟ أوليس السكون في حرم الاعتراف اعتراف؟ كلّ هذه الأسئلة هي علامات استفهام جالت في رأسي لجرأة هذا العنوان، ووجُب السؤال، وعلى المتّهم الإجابة.

لوحة النثري في قالب العمودي

القصيدة النثرية بارزة في ديوان «كرسيّ اعترافي» مع لفحات الإيقاع والموسيقى المخصصيين بالقصيدة العمودية، أي استخدم الشاعر التكثيف النثري مع الإيقاع. الديوان عبارة عن مجموعة قصائد تفعيلة وعمود، ختمها بقصيدة نثرية طويلة بعنوان «القامشلي»، فيها عودة للطفولة وانتقال بين مغتربات، وحالات وجدانية وفيها اعترافات قلما يجرؤ عليها أحد، خاصة وأن غالبية الشعراء حين يتحدثون عن الذات، يقتربون من الالوهية.

ويقول الشامي عن ذلك: أنا في اعترافاتي كنت ابن التراب وسأبقى لصيقاً به. شكل القصيدة بالنسبة إليّ، لا يعني الكثير، فلا الموزون هو الشعر ولا المنثور، الشعر هو في مطرح ثالث، هو في الجمرة والتوهّج، وفي الاحتراق الكبير الذي تسبّبه الفكرة والصورة التي عليها.

وفي قصيدته «حسن الجوار» أمتعني حين وصف الليل قائلاً:

بعض هذا الليل

على زيح النهار

يشتري كفني

ويرميني شراعاً

في البحار.

أيها الفجر الحميم الدفء

خبئني لأيام الصقيع

فإن بي ثلجاً ونار.

هراء بهراء

إنّ أراد الشاعر مردوك الشامي إقناع القرّاء بالقصيدة، يقول لهم: اقرأوا بقلوبكم، اللغة ليست القصيدة ولا الثوب، ولا الإيقاع ثمة دواوين بحجم قارة واسعة من الشعر الكلاسيكي وليس فيها بيت شعر واحد، وثمة أكداس من المجموعات التي تعتمد النصّ المنثور ولا تقارب الشعريّة، أقول لهم الشعريّة في المتلقي حيث يشعر بالتحليق وأنه اقتلع من الزمان والمكان، فهو أمام الشعر، عدا ذلك كلّ ما يُكتب هراء بهراء.

مسقط رأسه وشعره

استهل ديوانه بقصيدة «بيروت» وختمه بقصيدة «القامشلي»، ويبرز فيهما معنى المكان بالنسبة إلى الشاعر، وكم يُضعفه الاغتراب والابتعاد عن الجذور ومأوى الحياة والروح، ففي القامشلي تنبعث ذكريات الطفولة وفي أحضان بيروت لطالما سهر على الآلام والأحلام. المكان في الشعر هو المتخيّل، هو اللامتناهي، هو ما نفترضه نحن، بيروت بالنسبة إليه كانت مسقط القصيدة، والقامشلي كانت مسقط الرأس، وما بين بيروت والقامشلي تنقلّ، من مغترب اسمه الوطن، إلى مغترب آخر اسمه الغربة، في القامشلي طفولته وغرفته ودفاتره القديمة وحبيبات تعلّم على أيديهن الشغف بالحياة، وأمه التي لا تزال تنتظر عودته وهو الراحل منذ أكثر من 35 سنة عن البيت. في بيروت أوراقه التي نضجت أكثر، الحياة بكلّ ما فيها من تعب وحزن وراحة وفرح، وموت أيضاً.

ويقول عن بيروت: بيروت بالنسبة إليّ فضاء واسع، وقبر واسع أيضاً، هنا كل شيء متاح الصالح والطالح معاً، الحبّ والكراهيّة، المرأة التي تحيي والمرأة التي تميت وتقتل وتمشي تحت النعش وهي تزغرد أو تذهب إلى فلسفة الجحود لتترجم عزوفها عن الوفاء بهروبها إلى وهم حريّات زائفة.

وفي قصيدته «بيروت»، قال:

أضيئوا ليلنا بالموت

علّ الفجر يأتينا..

إذا رفعوا شواهدنا

على التلفاز

أو رسموا ملامحنا

ممزقة

كما رايات إخواتنا

الت تعلو بلا سبب.

على وطن أظنّ القبر

أكثر منه أجنحةً

ومكرمةً

ويدعى العالم العربي.

قصيدة «حفيف النعش» التي أهداها إلى والده، تدقّ التفاصيل وتترجم غوصه بالألم العابق على رحيل والده ما بين حفيف النعش ودوموع الأسى، وفتحت تلك الكلمات الجراح حين قال:

ووعدت أنك لن تنام

وتظلّ تحرث إرثنا الغالي

وأسطحة الحمام.

ووعدت ترجع للبيوت وتفتح الباب الحديدي العتيق

وشرفة البيت الرخام.

هل كنت تسألنا الصمود

وأنت تحفر في المدى قبراً

وتلتصّ الظلام؟

هل كنت ترجونا البقاء على العهود

وأنت تدلف في هزيع الفجر تدرك أننا الجيل الحطام؟

أنا لا أظنك تتقن الموت

فقلبك لم يزل طفلاً وما بلغ الفطام!

ويقول عن هذه القصيدة: والدي رحل وهو يزورني في غربتي الألعن، في السعودية، تركته مدفوناً في رمالها وضيّعت حتى عنوانه الأخير، لأن القبور هناك بلا شواهد. والدي كان الشجرة، ربما أغمض عينيه غاب لكن حفيف الشجرة يبقى، يبقى في ملامحي وصوتي، وسيبقى في أبنائي من بعدي.

اختلفت الأماكن في ديوان «كرسيّ اعترافي»، بين بيروت، ودمشق، الرياض والهفوف. تقسّم الديوان إلى ثمانية وخمسين قصيدة من الشعر التفعيلي العمودي، على نغمٍ وإيقاعٍ لافتين.

اخترنا لكم قصيدة «على الدنيا السلام»:

صار عمر اليوم

عاماً كاملاً

وبدأت ألهث كالعجوز

أعدّ ساعات انتظاري.

ووردة ذبلت هنا

حقل هناك.

وأراقب العصفور في دورانه

المحموم

مشتعلاً بناري

ساهماً في الأفق

عيناي الشباك.

تأتي غداً

ويجيء غد

والريح لا تأتي برد.

والورد فوق الشرفة العمياء

ما عاد بِوَرْد!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى