القمة التاريخية «المُكلِفة «: تنوب عن المحاور

روزانا رمّال

كل الأجواء تشير إلى نجاح مساعي روسيا والصين في إتمام خيوط العقد لقمة «القرن» التي ستتخذ من سنغافورة موطئاً لها وهي الخطوة التي كانت تعتبر واحدة من أكثر المحطات السياسية «خيالية» في الأمس القريب نظراً لتعنت الاطراف المعنية بالخلاف الأميركي الكوري الشمالي الذي وصل حد العداء.

هذه القمة الحدث قوامها أول لقاء يجمع ما بين رئيس للولايات المتحدة الأميركية ورئيس لكوريا الشمالية بعد قطيعة أكثر من سبعين عاماً.

لا يختلف اثنان على التحديات التي تحيط بكل من الرجلين اللذين قد يشبهان بعضهما بعضاً كثيراً لجهة المواقف العاصفة التي تعقب تصريحاتهما على المستوى الدولي، ولا يختلف اثنان على التباعد السياسي الكبير الذي جعل من كوريا الشمالية دولة «مارقة» لا تتقيّد بأي من الاعراف الدولية ولا تحظى باعتراف المجتمهع الدولي بها كوجود. وفي هذا تساؤلات عدة حول هذه القمة توجه للجانب الأميركي الذي لطالما اعتبر الزعيم الكوري الشمالي الراحل ونجله كيم جون اون ديكتاتورين ومجرمين بحق أهلهما وشعبهما الامر نفسه الذي يأخذ نحو الشرق الاوسط بشكل سريع لتحضر سورية بتوصيف رئيسها بشار الاسد بالرؤية الأميركية وتصنيفه في الخانة نفسها ما استوجب إعلان حرب شاملة عليه لإسقاطه. وبالتالي تحضر ازدواجية المعايير بقوة بمجرد إعلان الرغبة باللقاء لكن من جهة أخرى تتوضح اكثر البراغماتية الأميركية القابلة للتقدم أشواطاً عندما تقتضي مصلحة واشنطن تغيير سياساتها الخارجية حيال أي من الملفات العالقة.

القمة المكلفة سياسياً التي تحمل بطياتها تنازلات أميركية واضحة لمبدأ الاعتراف بالدولة الكورية الشمالية والتنازل للمفاوضات في أجواء دولية لا تريح الأميركي في حسابات الربح والخسارة، خصوصاً لجهة انتماء كوريا لشمالية للمحور المنافس اقتصادياً وسياسياً لواشنطن. هي قمة مكلفة مالياً أيضاً فقد أعلن رئيس وزراء سنغافورة التي تستضيف الحدث «لي هسيين لونغ» أن «تكلفة استضافة القمة التاريخية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون التي من المقرّر أن تُعقد يوم غد الثلاثاء 12 حزيران الحالي، تصل إلى نحو 20 مليون دولار » وأن بلاده أي سنغافورة «مستعدة لتحمل التكاليف»..

العالم يترقب هذه القمة بحماسة إعلامية وسياسية غير مسبوقة، لكن الأكثر اهتماماً هي روسيا التي تتابع عن كثب مجمل التطورات المحيطة بتحضيراتها وصولاً الى جدول أعمالها على ما كشفه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في قوله «إن القمة المقبلة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون ، سوف تتناول قضية معاهدة السلام بين سيول وبيونغ يانغ وسيتم البحث في أمور أخرى، لذلك كل شيء يتطور وفقاً لخريطة الطريق الروسية الصينية».

ترسل موسكو رسائل مباشرة حول كونها شريكاً بهذا التقدم الدبلوماسي والسياسي الكبير الذي جرى على خط الكوريتين أولاً وكوريا الشمالية والولايات المتحدة ثانياً. وهذا النجاح إن دلّ على شيء فهو يدل على:

اولاً: اعتراف واشنطن بالمدى السياسي الروسي المستجدّ وبقوة حضورها في المجتمع الدولي. وبالتالي فإن تجاهل هذا الدور لم يعُد ممكناً، بل إن واشنطن تحتاج لهذا الدور في أكثر من ملف للخروج من مأزق يعنيها ويعني حلفائها.

ثانياً: إن النجاح في واحد من الملفات يؤسس الى ارضية «ثقة» تمتد الى ملفات أخرى. وهذا ما يثير الاستغراب في وقت الصراع الغربي مع روسيا حول أوكرانيا شبه جزيرة القرم عاد ليطفو من جديد ليتبين أن الأميركيين يتعاطون مع الروس على «القطعة»، ويتبين ايضاً ان امكانية التقدم في اكثر الملفات تعقيداً ممكن إذا توفرت الظروف وأن لا ثوابت في الخيارات السياسية الأميركية.

ثالثاً: انعقاد القمة قد لا يعني ظهور نتائجها بسرعة إلا انها تؤكد انعكاس أجواء تفاوضية تنعكس على ملفات الشرق الاوسط برمّتها، أولها الملف السوري لتصبح كوريا مقدمة التحولات نحو أجواء سياسية جديدة تسهل القبول بالرئيس السوري بشار الأسد، والاعتراف به أمام المجتع الدولي، وهو الذي يصنف ديكتاتوراً ومجرماً عند الغرب. الأمر نفسه الذي ينطبق على الزعيم الكوري الشمالي من دون أن يمنع ذلك تقدّم الأميركيين نحو الاعتراف فيه، وبالتداول في حقوق بلاده النووية، وبالتالي فإن القمة التاريخية بين دونالد ترامب وحليف روسيا كوريا الشمالية تعني إمكانية كشف الأميركيين عن مواقف جديدة تجاه الملف السوري.

رابعاً: العلاقة بين الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر من علاقة حلفاء، بل هي علاقة «رعاية» وحماية تقدّمت روسيا منذ سنوات باتجاهها. وهي علاقة منسحبة ايضاً على التعاون الاستراتيجي العسكري. ويذكر هنا أن جزءاً من السلاح السوري الذي وصل حزب الله كان من صناعة كورية شمالية، أي أن هذه العلاقة بعيدة المدى ومتجذرة تحوي الكثير عن الأسرار العسكرية التي كشف النقاب عن القليل منها بعد حرب تموز لجهة الدور الكوري في منطقتنا عبر روسيا، وبالتالي فإن قمة بهذا الحجم هي قمة «تنوب» عن محوري الغرب والشرق من دون أدنى شك. ويفترض التعاطي السياسي الدولي معها بحجمها الشديد الأثر والكثير التكاليف.

قمة مكلفة سياسياً وتؤكد التغيير الكبير المقبل على الشرق الاوسط وعلى حسابات المحاور وعلى اعتراف أميركي مباشر بالدور الروسي، بل الأهم من ذلك «الوسيط» الروسي الموثوق القادر على لعب دور هام في الخلاف جنوب سورية بين الإسرائيليين والإطراف المتنازعة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى