يا سيّدي الرئيس… لن أعود ما دام الوطن معادله ورقة!

طلال مرتضى

منذ ألف… ألف مقال وقصيدة وأنا أنحو بعيداً عن دروب السياسة. علّمني أبي الغارق بلوثة شمس البلاد، وهو يلملم السنابل التي داستها أقدام الحصّادين، قال: الفرق بين القصيدة والحصيدة قيام حرفين، اختزل «قصة حب»، القصة وطن داسته أقدام المارقين، والحبّ صار معادله اللغة بين حبّ الحواس وبين دلالة القمح الذي سلك عن سابع نيّة درب المطحنة. المطحنة وحدها كناية للبلاد التي دارت رحى جنونها وتفلتت من أناها، بعدما غرّروا بها كي تركب درب المعصية، المعصية كما ادّعى شيوخ فتنتها. وجه الاختلاف بين حبّ الحواس وحبّ القمح الذي كان يتقصد أبي ـ بفرك سنبلة مكتملة ـ وتركه على قارعة التراب، لا ليصير مجدداً سنابل عامرة وحانية الرقاب، مطلقاً.. أنا أعرف كيف يفكر هذا الطاعن في عشق التراب، أراد من حبات القمح المتساقطة تلك، إغواء الطيور التي هاجرت وتركت أعشاشها بعد أن نعقت الغربان بينها في الأرجاء بالعودة.

كيف أعود… قلت: يا أبي؟

البلاد التي غنّيتها في الأناشيد المدرسية، حين كبرت تأكدت أنها موجودة فقط في دواوينهم، أرادوا ملء فراغنا بهذرباتهم، بلادي، بلادي يا أرض الجدود.

ـ «كول هوا… يا حمار… سدّ تمّك».

كان هذا الصوت من خارج النصّ، النصّ لم تعد دوالّه حانية كما كان سالفاً، عندما أشعلت أوار جنونه بنات القصائد… النصّ هنا على فسحة الديوان اختزال وطن، شطرته الحرب.. الحقيقة الحاضرة منه هو النص، أو المنتصف، لهذا رش أبي حبات القمح حول محور النصّ.

كيف أعود يا أبي، والوطن صارت علامة اشتهائه مشطورة، الوطن ضاق ذرعاً بعد خيبته بنا يا أبي، لهذا لن أعود. لن أعود يا أبي إلى وطن بات صدر الجريدة أوسع من صدره. ملؤوا رأسي منذ الصغر يا أبي بقصص الانتماء الناعمة وقت جعلوا الوطن هوية، الوطن هوية، ورقة، من يفقدها، عليه أن يعود ألف، ألف فرع للمخابرات كي يستعيدها. وإن استعادها، سيسمع من مارق ما السؤال الرهيب، لمن بعت هويتك؟

ـ أولاد الق… درّة… أف عليكم، ولا استفتي منكم شرفاً. كيف أعود وقد علمونا في المدارس، من يفقد هويته لا شرف له، يا الله.. هل تذكر وقت أضاعت أختي هويتها عند بوابة قلعة حلب، هي لم تضيّعها ولم تسقط منها، كانت تشتري تذكرة، أرادت أن تُوصل الرسالة التي لم يوصلها رجال المخابرات إلى السيد الرئيس «سيف الدولة الحمداني» من ابن عمه أبي فراس الحمداني، يستجديه الرحمة بكل إباء: «ليت الذي بيني وبينك عامر… وبيني وبين العالمين خراب». لقد سُرق جزدان أختي طمعاً بالنقود، لم تكن غايته ـ وقتها ـ سلبها شرفها كما علّمونا عندما تضيع هويتنا. أنا لا أبرّر للحرامي فعلته أبداً، لكن من يقنع المتنمرين بأنها أي أختي لم تزل بكر، هكذا انتهكوا سوريانا التي تودّ أن أعود إليها. حين عبرت حدود القارة العجوز مشينا على الأشواق، لم أتذمّر البتة ممن كسروا هوياتهم في الطريق، برّرت لهم فعلتهم، قلت أرادوا التخفف من إثم السياسة، قبضت وقتها على جواز سفري الموشّى بنسر كمن يحوز على كمشة جمر واقدة وأنا أستعيد بالتمنّي لهج محمود درويش: رقم هويتي خمسون ألفاً.

ـ رقم هويتك يا ابن الحرام، أصلاً، حيتان المتوسط كلها وتماسيحه بعد أبحار 18 ساعة ما قدروا يبلعوا لحمك النتن… قال جواز سفري «ابن الـ».

أي لن أعود يا أبي.. لن أعود إلى وطن حتى مساحة المقال على صدر الجريدة فيه سيجها المنتفعون بقائمة الخطوط الحمراء، الخطوط الحمراء يا أبي ورقة اسمها هوية. كذبوا عليّ،. لا تنظر إليَّ بعين العقوق، هل تذكر عندما دفعت لموظف النفوس ورقة كاملة تحمل على ملقاها رأس زنوبيا، حينذاك لم أستطع السؤال، تركته يكبر، يكبر… يكبر إلى أن تعمشقت الكلاب الناهشة جسد قاسيون المنسدل على أريكة الشام العريضة. هل كانت تلك الورقة ثمن شرف أختي الذي سرقه بائع التذاكر هويتها أم أنك واريت وواربت العسس لجة سؤالهم، كيف فقدت ابنتك البكر وطنها، هويتها؟

أختي في ذلك الحين وقفت على أطلال حلب العامرة قبل أن صارت ملك يمين «لأخوة التين» وأوصلت رسالة أبي فراس إلى وليّه، لم تبثّه خبر سرقة وطنها/ هويتها وقتذاك، بل عادت أدراجها بهدوء، لأنها تعرف أن الهوية ليست كما علّمونا، أنها وطن، الهوية ورقة يمكن الحصول عليها وقتذاك بورقة مثلها ممهورة برأس زنوبيا. هنا، في منفاي البارد وبعد أن تغلغل في حواسي صقيع المدن الفاصلة، لحظة وصول صور بيتي العتيق من المدينة العتيقة، والذي استحال ركاماً بعدما رواه «طلال الصغير» ابن أخي، بفورة دمه، تحسّست جواز سفري الجديد الأحمر النوايا، النسر هنا لا يشبه نسر البلاد المذهّب. ضحكوا عليَّ يا أبي. كل من شاهدني وأنا أضمّ جواز سفري الأزرق إلى صدري، ضحكوا.. ضحكوا إلى أن استفقت من غيبوبة شوقي لدمشق على قهقهتهم، قال أحدهم بلكنته المحببة: يا طلال.. الوطن ليس أوراقاً نحملها.. الوطن أنثى.. امرأة من عطر وحبر وجمر.. تتكيفها مثل طقس البلاد المتقلب كيفما شئت لتحيا من أجلها.

تواً قبل مقولة الرجل أعلاه، فتحت حاسب لهفتي ووجعي، كنت أنوي كتابة رسالة إلى «السيد الرئيس» أرسل طيّها جواز سفري الأزرق الموشوم بنسر، خفتهم يسرقونني وطني في المغترب، وحده القادر على حمايته من الضياع.. لكنني عدلت عن فكرتي عندما أيقنت أن الوطن ليس ورقة بل امرأة، زوجة، حبيبة، وأضعف الأوزان عشيقة. لن أعود يا سيدي الرئيس إلى وطن لا أمّ لي فيه… ولا «حبيبة».

كاتب سوريّ/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى