الشاعر عزّ الدين المناصرة ناقداً

د. محمد ناصر الخوالدة

تندرج كتابات الشاعر عزّ الدين المناصرة النقدية ضمن ما يسمّى «نقد الشعراء»، مثل كتابات نازك الملائكة «قضايا الشعر المعاصر»، وأدونيس «زمن الشعر»، ونزار قبّاني «الكتابات النثرية»، ومحمود درويش في حواراته الصحافية حول الشعر. كذلك أحمد عبد المعطي حجازي، وخليل حاوي في كتاباته عن جبران، وصلاح عبد الصبور وغيرهم.

ويمكن هنا ملاحظة تميّز أدونيس والمناصرة، بالقدرة على التنظير النقدي من منظورين مختلفين. هنا نلاحظ أن هؤلاء الشعراء جاؤوا إلى النقد متأخرين. أي بعد أن ترسخت هويتهم الشعرية وأصبحوا من أعلام الشعر العربي الحديث ومن علاماته الأساسية، وهذا ما يميزهم عن غيرهم من الشعراء الذين لجأوا إلى النقد بعد أن فشلوا في الشعر، فقد ظلوا شعراء متوسطي الحال.

والمسألة الثانية تتعلق بقدرتهم أي الشعراء الأعلام على التأثير القوي في ساحة النقد والشعر معا، على عكس «الباحثين الأكاديميين» الذين لم يتجاوز بعضهم مرحلة الجمع وتزيين أبحاثهم النقدية بالمراجع وأرقام الصفحات وغيرها من أشكال التوثيق.

ويجيء تميّز أدونيس والمناصرة أيضا لأنهما مارسا العمل الأكاديمي، إلى درجة التفوق النقدي. حيث تجاوزا تنظيرات بعض الشعراء ذات الطابع الصحافي السريع. ثم يفترق نقد الشعراء بعد ذلك ليمثل نزار قباني تيار المضمون بلغته الإنشائية الشاعرية، وليمثل أدونيس تيار الشكل، وليتميّز المناصرة باتخاذه خطّاً أساسياً هو تيار المنظور الثالث، أي الذي يجمع بين الحداثة والفاعلية، كما أشار بعض النقاد.

يقول الدكتور ضياء خضير جامعة بغداد : كتاب الشاعر عزّ الدين المناصرة «جمرة النصّ الشعريّ… مقدمات في الفاعلية والحداثة»، يستحق الاهتمام والتنويه لأكثر من سبب. فهو بما حواه من نصوص نقدية حديثة يمثل مرجعاً مهماً في المكتبة العربية، يمكن مقارنته بكتاب الدكتور إحسان عباس «تاريخ النقد عند العرب… نقد الشعر». وكتاب المناصرة من الناحية المنهجية يمثل محاولة جادة لتأسيس ما يمكن تسميته «منظوراً ثالثاً» في النقد العربي الحديث لأنه يربط بين الفاعلية والحداثة، ويرى أن نقد الشعر الحديث ظلّ أحادياً يتمحور حول تيارين:

أحدهما يمجّد المضمون والآخر يمّجد جماليات الشكل ويتجاهل جمرة النصّ.

لقد أدرك المناصرة الناقد من خلال شاعريتة العالية، فهو أحد نجوم الشعر العربي الحديث. أدرك من خلال معاناته مع المؤسّسة السلطة المال الإعلام .

وأدرك من خلال أكاديميته المبدعة، أن النقد الأدبي الحديث لم يكن عادلاً في حواره مع النصوص الشعرية العربية، حيث تتدخل عوامل من خارج النص في تقويم الشعر والشعراء، وهذه هي النقطة الأساسية التي تحسب له، فنحن نجده يقدم أسئلة محرجة للنقد الصحافي والنقد الأكاديمي من نمط: إذا أخذنا بتنظيرات أدونيس النقدية حرفياً فإن شاعرية نزار قباني تصبح موضع تساؤل والعكس صحيح.

وهو يرى أيضاً أن أدونيس يمثّل وجهة نظر واحدة في مجال الحداثة، فكيف نتجاهل حداثات الأخرين. ومعنى ذلك أن نقارن «المنجز النصّي» ديوان فدوى طوقان وديوان محمود درويش وديوان المناصرة نفسه أو ديوان سميح القاسم بعضها مع الأخرى، بحذف السيرة الذاتية.

ومن جهة أخرى نقارن فاعلية المناصرة الجماهيرية مع فاعلية أدونيس الجماهيرية، عندئذ سوف نكشف مفارقات ونتائج مدهشة لا يجرؤ النقد الأكاديمي والصحافي على الخوض فيها. يقول الدكتور محمد صالح الشنطي: إن كتاب المناصرة «جمرة النصّ الشعري»، سفر ضخم، موسوعة نقدية متميزة مع كمّ معرفي وافر للغاية مع وفرة الرؤية الابداعية.

ويضيف الدكتور الشنطي: المناصرة شخصية ريادية تأسيسية، فهو صاحب منهج ونظرية على مستوى العالم العربي كله.

أما الكتاب النقدي الآخر الذي لفت انتباه النقاد والقرّاء لعزّ الدين المناصرة فهو كتاب «المثاقفة والنقد المقارن» الذي تعتمد عليه معظم الجامعات العربية، الكتاب الذي وصفه الدكتور عبده عبود من سورية بأنه «من أفضل المؤلفات العربية في بابه»، ووصف الدكتور عبود المناصرة نفسه بأنه «من أبرز الوجوه وأنشطها في الرابطة العربية للأدب المقارن، فهو مقارن عربي بارز يضطلع بدور فعال في النقد المقارن في العالم العربي، تأليفاً وتنظيماً وتلك حقيقة موضوعية». بينما يصفه الدكتور سعيد علوش من المغرب بأنه «ناقد مقارن ينطلق من منظور إشكالي».

ويتطرق علي شلش من مصر وشربل داغر من لبنان لمساهمات المناصرة المتميزة في مجال النقد المقارن، حتى أن شربل داغر يلاحظ أن المناصرة هو أول مقارن عربي لا يسمّى كتابه «الأدب المقارن» بل «النقد المقارن» على عكس الشائع. ونجد نبيل سليمان روائي وناقد من سورية يصف المناصرة بأنه «ناقد ألمعيّ» لقدرته الفائقة على التمييز بين الشعرية، أي موضوعة الشعر، والشاعرية، أي شاعرية النصّ.

أما الكتاب النقدي الثالث لعزّ الدين المناصرة فهو «إشكالات قصيدة النثر» دار الراية، عمّان ، فقد أثار معركة نقدية في العالم العربي كلّه لا تقلّ أهمية عن المعركة النقدية التي أثارها كتاب نازك الملائكة «قضايا الشعر المعاصر»، أو كتاب أدونيس «زمن الشعر». حيث انقسمت مواقف النقّاد والشعراء من الكتاب إلى مؤيد بقوة أو مضادّ بقوة أو محايد.

والملاحظة الجوهرية على الذين حاربوا الكتاب، هي أن معظم هؤلاء لم يقرأ الكتاب بل قرأوا عنواناً فرعياً «قصيدة النثر كتابة خنثى»، وتنطلق هذه الدراسة النقدية من نتيجة وصل اليها المناصرة وتقول: «قصيدة النثر جنس ثالث يقع بعد الشعر والسرد وهي مزيج من الشعر والنثر، لكن وجود الشعرية في الأجناس الاخرى النثرية كالرواية يؤكد أن درجات الشعرية موجودة في غير الشعر، لكن هذا لا يبيح لقصيدة النثر أن تلتصق بالقصيدة، لأننا عندئذ نخسر أهم جنس أدبي أبدعه العرب وهو الشعر، بدلاً من أن نربح جنساً ثالثاً جديداً وهو قصيدة النثر. لهذا على قصيدة النثر أن تفجر طاقات النثر الجديد بدلاً من محاولات الالتصاق الصناعي بالشعر».

كما أنّ المناصرة يعلن أن قصيدة النثر شرعية ولها حضورها الطاغي في الصحافة العربية وهو أحد كتابها منذ أوائل الستينات. وطالب المناصرة بالإيقاع لا الوزن المنتظم كأحد الفوارق بين القصيدة والكتابة النثرية الحرّة. وناقش المناصرة مسألة الإيقاع والوزن مناقشة مستفيضة. لكن المختلفين معه من الناشئين من كتاب قصيدة النثر، تجاهلوا هذه الأطروحة التي تستحق النقاش العميق وأمسكوا مصطلح «كتابة خنثى» من منظور أخلاقي تقليدي بيولوجي يقف ضدّ معنى التجديد.

لقد كان منظور المناصرة صعباً على التصنيف، وهذا ما أزعج بعض هواة التصنيف السريع الصحافي. ولعزّ الدين المناصرة كتاب آخر هو «شاعرية التاريخ والأمكنة… الحوارات». وهو مجموعة حوارات 83 حواراً .

نقرأ آراء المناصرة النقدية حول مفهوم الشعروواقع حركة الشعر العربي الحديث. والكتاب مليء بالآراء الشجاعة الخارجة عن السرب التقليدي في النقد الحديث للشعر. فالنقد معرفة وشجاعة وموضوعية لدى المناصرة. وقد أثارت بعض الحوارات مع المناصرة في الصحف والمجلات جدلاً واسعاً في أوساط المثقفين والشعراء في العالم العربي. فالشاعر المناصرة ناقد مثير للجدل بأطروحاته الجادة العميقة، بسبب عمق ثقافته وعلو شاعريته. لكن المناصرة ظلّ في إطار النقد النظري باستثناء تطبيقاته في كتاب «المثاقفة والنقد المقارن». وكأنه يشتغل أولاً لتأسيس تأكيد المنظورالثالث في النقد الأدبي الحديث، ربما لأن أفكاره نابعة أساساً من المعاناة والمعرفة والشجاعة والموضوعية مع حق الاختلاف المشروع. فقد أرسى المناصرة للمرّة الأولى في تاريخ النقد الحديث، أسس التعددية النقدية النوعية ومفاهيمها، على عكس الأحادية في التفكير لدى كثير من النقاد العرب، حيث فضح المناصرة، أسس الأحادية النقدية الدكتاتورية السلطة، المال، الإعلام . وكشف أسس هيمنة الاديولوجيات وتأثيرها على نقد الشعر من الانتماء السياسي للشاعر إلى فضح القطرية النقدية إلى كشف آليات الصراع مع قصيدة العولمة الصناعية . والأهم من ذلك أن المناصرة أثبت معرفته العميقة بالاتجاهات الشكلية في الأدب أكثرمن الشكلانيين العرب أنفسهم. كما كان المناصرة الناقد منفتحاً على العالم باعتبار أن مانتجادل حوله هو الأدب بغضّ النظر عن جنسيته. لكنه أكد أنّ «التجانس القهري» في العولمة النقدية يسيء إلى التعددية المرغوبة على الأقل نظرياً. ولاحظ الفارق الهائل بين النظرية والتطبيق. كما انتقد «الانتقائية التبريرية» في النقد. والصحيح أننا لا نستطيع الانتقال مباشرة إلى نقد النصوص قبل أن نحدّد الإطار النظري لذلك.

لقد أنجز عزّ الدين المناصرة مشروعه النقدي على النحو التالي: كتاب «المثاقفة والنقد المقارن» 1988، 350 صفحة . كتاب «جمرة النصّ الشعري» 1995، 600 صفحة . كتاب «هامش النصّ الشعري» 300 صفحة . كتاب «شاعرية الأمكنة والتاريخ… الحوارات 2000، 700 صفحة . كتاب «قصيدة النثر… المرجعية والشعارات 1998، 88 صفحة .

وفي مجال «النقد الثقافيّ»، والتسمية نفسها لعزّ الدين المناصرة، أنجز المناصرة الكتب التالية: كتاب «الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ 1975 . كتاب «السينما الإسرائيلية في القرن العشرين 1975 . كتاب «الجفرا والمحاورات 1993 ، في الثقافة الشعبية. كتاب «جمع وتحقيق: الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود».

وقد تميّز اثنان من الفلسطينين بالنقد الثقافي العام أحدهما المناصرة، والآخر هو جبرا ابراهيم جبرا. بينما تخصّص إدوارد سعيد في النقد الثقافي لكنه مارس نوعاً واحداً منه هو «المثاقفة». وبينما طبّق المناصرة نقداً ثقافياً على فروع الفن التشكيلي، السينما، المثاقفة، الجمع والتحقيق، الموسيقى، كان يهدف مبكراً إلى التمهيد للنظريات التي جاءت لاحقاً والتي تتحدّث عن تقارب الفنون والآداب، أي أنه مارس ذلك قبل الترويج الإعلامي للنظرية التي ظهرت في أوروبا الستينات، بينما بدأ الكلام عنها في العالم العربي متأخراً نسبياً التسعينات . وهذا ما أضفى صفة التعدّدية النقدية على ممارسته النقدية.

وقد مارس المناصرة معرفته بالمناهج كالبنيوية والسيمائية والموضوعاتية. ولعل ذلك يعود إلى عمله السابق في الجامعات الجزائرية 1983 ـ 1991 ، حيث قام بتدريسها منذ أوائل الثمانينات. وشارك في مؤتمرات عالمية في النقد، ما أكسبه خبرة نظرية عميقة. لهذا وجد نفسه وحيداً بعد عودته من شمال أفريقيا إلى عمان، حيث ما زالت هذه المناهج في الجامعات الأردنية في حالة تخلّف شديد. في عام 2000 فقط، سمح للمنهج السيمائي بالدخول إلى الجامعة الأردنية. وكان المناصرة قد التقى وتحاور مباشرة مع عدد من النقاد العالميين من أمثال: الأميركي رينيه ويلك، والفرنسي رينيه إيتيامبل، والبروفسور باجو، والأميركية آنّا بلاكيان، والهولندي فوكيما، والهنغاري فايدا، والروسي بلاشوف، والفرنسي ميشال باربو، والفرنسي برونيل… وغيرهم، خلال مؤتمرات عالمية في باريس والجزائر. ونحن نلاحظ ميلاً واضحاً لدى المناصرة نحو الاستقلالية الشخصية النقدية، فهو يناطح قامات عالية في النقد العالمي بشجاعة ومعرفة من دون عقدة الشعور بالنقص التبعية لدى بعض النقّاد العرب.

وهناك مسألة مركزية في كتابات المناصرة النقدية وهي تمييزه الحادّ بين المرجعيات الأوروبية، والمرجعيات المشرقية العربية، لدى قراءة النصوص، لكنه مع ذلك يطالب بالانفتاح التام على العالم بعيداً عن «التلذّذ بالتبعية» كما يقول المناصرة.

وهناك ميزة «النقدية النظرية» لدى الشاعر عزّ الدين المناصرة الناقد وهي قدرته الفائقة على ابتداع المصطلحات الجديدة، ما يثري النقد العربي الحديث. فهو الذي نحت مصطلح «التلاصّ» كاختصار لمفهوم السرقات الأدبية بالتوازي مع المصطلح الأوروبي «التناصّ» أي تعالق النصوص . وهو المقارن الذي جرؤ على استخدام مصطلح «النقد المقارن» بدلاً من «الأدب المقارن»، وهو مبدع مصطلح «التلذّذ بالتبعية» ومصطلح النقد الثقافي المقارن عندما صنّف إدوارد سعيد تحت هذا المصطلح. كذلك صاغ مصطلح «الشاعرية» لتميّزه عن مصطلح «الشعرية» علم موضوعة الشعر . وصاغ مصطلح «بياض البياض» في مقابل المصطلح الشائع «البياض» في الصفحة. كما أنجز مصطلح «النواة الخفيّة» في دراسته الرائدة «شعرية الأمكنة». وصاغ مصطلح «الشاعرية الماقبلية» للدلالة على شاعرية المكان قبل تحوّله إلى نصّ. كما صاغ مصطلح «النقد الكحولي» للدلالة على النقد الذي يكتب انطلاقاً من فنّ العلاقات العامة.

وميّز المناصرة بين «البحث النقديّ» و«نقد النقد» و«النقد النصّي» و«النقد النظريّ»، كما ميّز بين «المناهج» و«التقنيات». وصاغ منذ عام 1964، كشاعر، مصطلح «قصيدة الهوامش» في النقد والشعر معاً منذ نهاية الستينات، أي قبل قصيدة إسماعيل لأودنيس المنشورة عام 1984، وهي قصيدة هوامش. وهكذا التقى لدى المناصرة الإبداع الشعري مع الإبداع النقدي، لكنه ظلّ ينظر إلى النقد كتابع للإبداع. كما وصف نفسه بأنه «ناقد هاوٍ» أو «شاعر يكتب النقد دفاعاً عن الشعر». لكن هذا «الناقد الهاوي» تفوّق في مجالات عدّة على النقّاد الذين يوصفون بالمحترفين الذين وقعوا في خطأ عدم التمييز بين «تاريخ الأدب» و«النقد الأدبي»، ولم يميّزوا بين النصّ والسيرة الذاتية.

تلك هي الخطوط الانطباعية الرئيسة لدى قراءة أعمال المناصرة النقدية قراءة موضوعية بعيدة عن الموقف المسبق، لكن هذه الخطوط لا تقول إلا القليل السريع. فالمناصرة شاعر مثير للجدل دائماً كنصّ شعريّ، وهو أكثر إثارة عندما نقرأ أعماله النقدية، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا معه في بعض آرائه، فهو شخصية نقدية هامّة في إطار حركة النقد الأدبي العربي الحديث.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى