«كأي جثّة مباركة» لسامية العطعوط: نصّية الموت والخراب

رامي أبو شهاب

تعدّ القصة القصيرة فناً أدبياً شديد الخصوصية، إذ تنطوي على قدرات تمثيل متقدمة، ولا سيما من حيث رصد تداعيات الفعل الكامن في فسحة ضيقة من الزمن والمكان، ومن ذلك على سبيل المثال معالجة ثيمة القتل العبثي، فالموت لا يحتاج إلى تفاصيل كثيرة كي يحدث الأثر، وينتج التداعيات. فالقصة تلجأ إلى تكثيف هذه الممارسة ضمن تقنية المزامنة القائمة على التأمل، لا الشرح، وهنا تتفوق القصة بتكوينها الخاطف، والشديد الاختزال كي تتساوق مع «الموت» الذي يأتي بلا مقدمات، وإن وجدت المقدمات فإنه لا يحتاج إلى زمن كي يتحول إلى شيء يومي واعتيادي، فرصاصة واحدة لا تحتاج إلى أكثر من ثانية، وحين تأتي الشظية، أو القنبلة فإنها لا تحتاج إلا لبضع ثوان حتى تجهز على الإنسان بكافة أحلامه وآماله، في حين أن المهاجر الغريق لا يحتاج إلا لدقائق معدودة كي يدرك أنه بات جزءاً من عمق الظلام غير قادر على التنفس، وأن عالمه الذي تركه أمسى جزءاً من ذاكرة قصيرة، لن يمهلها الماء الكثير كي تتلاشى منها الصور. في هذه اللحظات لا أعتقد أن ثمة فناً أكثر قدرة على تمثيل هذه المشهدية، وما يمكن أن تنتجه من أفكار، أو مشاعر كما القصة، في حين أن أي إضافات لتصوير الحدث فإنها ستكون ضرباً من الثرثرة العبثية. في مجموعتها القصصية الجديدة «كأي جثة مباركة» تستكمل القاصة الأردنية سامية العطعوط مشروعها الإبداعي، حيث تقترب أكثر فأكثر من دلالات التأمل لمآلات الإنسان العربي المقهور، إذ تطل قصصها على أزمنة معاصرة حافلة بالموت، والهجرة، واللجوء، وهي ثيمات تستجيب لبينة هذا الزمن العربي الذي يشهد فائض الموت على اختلاف جغرافياته، وهنا لا يبدو الموت موضوعاً بمقدار ما هو معضلة فلسفية، تتأملها نصوص المجموعة، ولكن بلغة تمتلك وقعها عبر معجم شديد الإرباك، أو يمكن أن نطلق عليه، أنه قائم على لغة صادمة، وهذا يبرر تبعاً لمتطلبات الواقع، فالجثث لها لغتها، بما في ذلك الدم، والأشلاء والرؤوس، التي تؤسس لحبكات شديد القتامة والسواد.

تلك القصص التي تأخذ شيئاً من الواقع، وتعيد طرحه متخيلاً، ومع ذلك يبقى هذا الواقع حافلاً بالأفكار، والبحث عن آثار الأشياء، وهذا ما يجعلنا نؤمن بأن معظم القصص تتخذ من تقنية المفارقة نسقاً مركزياً. فمعظم القصص تنتهي إلى حدود تجاوز الواقع، أو أنها القصص التي ينتزعها الواقع، ولكن أيها أشدّ ألماً أو صدمة، المتخيل أم الواقع؟

تتكون المجموعة من أربعة أقانيم. الأول «كراسة الحرب» وفيه قصة تنفتح على رؤوس الأطفال الموتى، وهي تتحول إلى خط فاصل بين المقاتلين، غير أن الصدمة تبدو في لغة شديدة الحياد، حيث نقرأ على لسان السارد أن من بين تلك الرؤوس رأس طفلي الصغير. في حين أن القاتل في قصة أخرى لا يميز بين الحلم والواقع، بعد أن جزّ أعناق الكثير من البشر. هكذا تظهر المفارقة، وقوامها أن عبثية الموت باتت خطاباً واضحاً، بل أمسى صنع الموت نمطاً سلوكياً، يتداخل مع الحياة، ليتجاوزها، حيث يمكن أن نتقبله بوصفه أمراً يومياً، وهكذا تقدم تمثيلات الحرب بأعمق صورها، كما في قصة «الحوذي ضئيل الحجم» إذ لا تبدو متتالية الاكتمال جزءاً من نهج القصص عامة، كونها لا تؤدي إلا إلى الفناء أو الموت، الذي يعدّ فعل بتر للحياة. هي خطة لغوية جعلتها العطعوط صيغة تحتفل بالقدر ومخططاته العبثية، ولهذا أطلقت عليها وسم كراسة الحرب. في هذا الجزء من المجموعة تحديداً نقرأ صيغ التعبير عن واقع الحرب السورية، ومن ذلك التطهير، والنفي القسري، كما القتل والدمار ضمن عبثية الموت على أرض يتكالب الكل عليها، بحيث يتحول الدم إلى سرّ وجودها.

جزء غير قليل من القصص ينشغل بتجسيد هذا القدر الذي أوجده العقل البشري المريض، الذي أنتج هذا القدر من المفاهيم المختلطة لمعنى الحياة والموت، كما المفهوم القلق لمعنى الوطن، كما في قصة «ذاكرة حرب» حيث يعبر عن ذلك بلغة مجازية مشهدية تناقش هذا المفهوم بوصفه معنى غير مدرك، فالوطن ليس مصالح ضيقة أو أيديولوجيات واهمة. الوطن الذي تحول إلى خيم اللجوء التي أمست قدراً لواقع الإنسان العربي، فلا جرم أن تحتمل القصة نقداً للتيارات الدينية المنتجة للإرهاب، بما في ذلك مفردات جهاد النكاح، وأطفال السفاح، وغير ذلك من تشوهات الحرب، التي أفرزت جنوناً لا تطيقه اللغة. في قصة «العربة الخشبية ذات المقبضين» ثمة قدر من المفارقة الشديدة الإعداد الفنّي، ولا سيما عند تتبع الرجل، الذي يعمل في نقل الجثث من المعركة على عربة، وبالتحديد الجثث المكتملة، ومن ثم يعود كل ليلة إلى بيته ليبدأ عملاً آخر يحبه، بحيث ينظف عربته من الدم، ويعطرها كي ينزه ابنه المقعد عماد وشقيقته لميس، ولكنه يعود ـ في يوم ما ـ كي ينقل جثتيهما الصغيرتين. وهكذا تتفوق صيغة التمثيلات المشهدية القامة على عنصر الصدمة على أي صيغة خطابية أخرى، باستثناء التكرار المعجمي لمفردات الجثث والدم والأشلاء، والمدينة التي تتأسس على صورة مغبرة، خاوية، هذه المعجمية التي تطابقت مع الفضاء العام والتي اكتملت مع القصص القصيرة جداً مطلوب جثة 1 و 2 .

في الجزء الثاني من القصص نقرأ «ممحاة البحر»، إذ تبقى المجموعة في مناخها اللغوي الكئيب، ولكنها تتجه إلى التركيز على اللجوء وفعل عبور، بالاتكاء على مرجعية دينية بمعنى العبور بوصفه ملجأ أو مخلصاً، ولكن العبور لا يكتمل، إنه عبور يعاني من الإجهاض كما كافة التشوهات التي تطال نفوس المرتحلين واللاجئين، الذين يعبرون البحر، بحيث يتحول إلى كائن. هذا البحر الذي قضم آلاف الجثث، وهي ترتحل هرباً من الموت المؤكد إلى الموت المحتمل، وهنا يكمن الفرق، فعلى الرغم من أن الموت قائم بينهما، بيد أن الجثث تذهب بحثاً عن قدر الحرية والوصول له، على شكل جثة كما في قصة «تخمة الحرية» حيث جاء: «كان سعيداً جداً لأن جثته استطاعت الوصول إلى شواطئ البلاد الجميلة، حيث يعيش الناس تخمة الحرية»، هذه الدهشة الفلسفية في تعريف اللجوء بوصفه موتاً، ولكنه موت مع شيء من الحرية، وهكذا تتعالى صيغ هجاء الواقع العربي الذي لا يعترف إلا بالقمع، وإفناء الحيوات من أجل السلطة.

إن المجموعة القصصية تتقدم في هذا المستوى الثيمي لتطال قضايا زمننا العربي بكافة تعقيداته عبر بنى قصصية متقنة، وضمن آلية تقشف واضح، عبر التخفّف من كافة الزيادات والحشو على مستوى الحدث والتوصيف، فهي تلجأ إلى موجات من الخطاب أشبه بهزات دلالية نصطدم بها، أو يصطدم بها المتلقي، وبالتحديد نهايات القصص التي تعيد برمجة الفعل التأويلي لحركة الحدث الذي يبدأ، ومن ثم يتصاعد كي ينتهي بصدمة الفناء.

لا شيء مكتمل، إنما سلسلة من الإجهاضات المباشرة لفعل الحياة الذي ينتج طفلاً أو مسخاً من علاقة سفاح. هذا المسخ نتاج العقل العربي المريض، وهذا يشمل شخصية «فردوس» التي ترغب بالخروج من الوطن بأي طريقة كانت. هذا الإحساس بفعل الارتحال للتخلص من عالم عربي بائس، بات قدراً على شكل حلم يعيشه الشباب، سواء في مصر أو سورية أو الأردن، أو في أي مكان من العالم العربي، بهدف الوصول إلى شواطئ إيطاليا أو فرنسا، أو إسبانيا. في الجزء الثالث من المجموعة نقرأ قصة عائلة لم تعبر البحر، لتعيد صوغ الجنون الذي يتملكنا في أوطاننا، حيث نعيش جزءاً من شتاتنا الداخلي، وتشظينا حتى نتحول إلى كائنات بأذناب، أو مسوخ، تعاني من قهر ترابية المجتمع، ممثلة بسلطة الدولة، والأب، والمجموعة الدينية والطائفية. هي تراتبية لامتناهية، فلا جرم أن تتحول مجتمعاتنا إلى كائن مريض على مستوى جمعي.

وهكذا تستمر القصص في هذه الأجواء المشحونة، كما في الجزء الرابع بعنوان «مدن في قعر الخوف». تلك المدن التي تبتلع إنسانيتنا، وتنهي وجودنا الإنساني مادياً ومعنوياً، فالمدن العربية مهما اختلفت فإنها لا تكشف إلا عن وجه بشع، فالكل يتبنى ثقافة مصادرة حق الآخر في الحياة، كما في قصة «السكين ذات المقبض الأسود» حيث السلطة تصادر حق امرأة بالبيع على بسطة صغيرة، وغير ذلك من القصص التي تعبر عن مسالك مدن عربية مشوهة، أنتجتها مجتمعات الحداثة المجهضة والنخب الوطنية، وبهذا فإن القصص تحتمل قدراً من الأنساق التي تكشف عن بيان لمسوغات النتائج القائمة على تصدر الموت، والجثث للمكون الوجودي العربي، ولهذا يمكن القول بأن هذه المجموعة تقدم مقاربة شديدة الصدق والعمق في توصيف جانب من جوانب الأزمات العربية الناتجة عن تبني ثقافة الموت.

كاتب فلسطينيّ أردنيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى