ترامب الذي سلَّم والعربي لم يتعلَّم

د. رائد المصري

باتَ وشيكاً إدراك التحوُّل في موقف ترامب الدولي وإزاء الأزمات المستعصية، وهو ينحنِي شيئاً فشيئاً من دون التسليم المبكِّر بها، علماً أنَّه يتحضَّر لها من خلال تخفيف قبضة مؤسسات الدولة الأميركية العميقة عليه وعلى حرية حركته الداخلية وفي السياسة الخارجية، التي يُشكِّل عمادها التعاون مع روسيا وضرورته الملحَّة حتى لا تتبعثر من أيديه كل الأوراق السياسية ويفقدها مرة واحدة، حيث نشهد حالياً المثال للنموذج السوري ولعناد ترامب ونتنياهو والذي أدَّى للحسم العسكري التام وبسط سيطرة الدولة العربية السورية كاملاً على الجنوب لضرب الإرهاب بالقوة وبالحديد والنار وبتغطية جوية روسية كاملة…

إرادة ترامب وقناعته مزمنة بالانفتاح على روسيا البوتينية ويعتبرها ضرورية، خصوصاً لناحية حظوظه في السِّباق الرئاسي وكيفية وصوله البيت الأبيض، لكن المؤسسات الأميركية الحاكمة ولوبيات اليمين الضاغطة مع الصهاينة، والتي كانت تميل وتدعم هيلاري كلينتون عادت وتحوَّلت في موقفها بعد الفوز، لكنَّها أبْقت الأبواب مغلقة بوجه ترامب على أي انفتاح على الشرق أو روسيا والصين، على اعتبار أن منهجية الأحادية القطبية في العالم التي تتفرَّد بها أميركا لا زالت رغم تعثُّراتها وخيباتها في مجلس الأمن والجمعية العامة ومجالس حقوق الإنسان، حيث انكشف بصورة فاضحة ميلها لتأييد جرائم الكيان الصهيوني بحقِّ الشعب الفلسطيني وبدعمها للفصائل الجهادية المتطرِّفة في سورية والاستثمار الشديد عليها في استنزاف دول المنطقة في سورية ولبنان والعراق واليمن وليبيا…

المُكابرة لمؤسَّسات القرار الأميركية كَشَفَت عن خيباتها في تسوية الأزمات الداخلية بدءاً من محاولة إعادة التصنيع الى الداخل الأميركي وليس انتهاءً بمفاعيل قوانين الهجرة العنصرية بحق الشعوب وكان آخرها القرار العنصري بفصل الأولاد عن آبائهم المهاجرين ما يكشف أقبح المشاهد الاستعمارية التي تُدمي وتُميت ضمير الإنسانية. وقضايا المناخ والانسحاب من اتفاقيته ومن اتفاقية النافتا وبفرض الرسوم الجمركية على السلع الأوروبية وعلى الحديد والصُّلب وغيرها، بما يخالف منطوق قوانين منظمة التجارة العالمية. فأحدث ذلك عزلة للولايات المتحدة الأميركية على مستوى الاقتصاد وعلى المستوى الأممي، وعلى مستوى قدرتها لتوفير الحلول للأزمات الدولية.

ورأى ترامب من خلال كلِّ ذلك حركة التكتُّلات الدولية التي تقودها وتلعب أدواراً أساسية فيها روسيا والصين، وكذلك الانزعاج الأوروبي في قمَّة السبع الاقتصادية وانسحاب أميركا قبل تلاوة البيان، ممَّا يعني عدم موافقتها على هذه القمة ومندرجات ما جاء فيها.

هذا التراكُم السريع من السياسات الدولية وتطوُّراتها في فترة زمنية قصيرة نسبياً، أفرغ جِعبة الولايات المتحدة من أيَّة أوراق أو عوامل دفع تقدر بها أن توظِّف قوَّتها ودورها في حلّ الأزمات أو في إبقاء النزاع في العالم، رغم نفاد الأدوات الاستثمارية التي كانت تعوِّل عليها بدءاً من دول الخليج وصولاً إلى قوى الإرهاب والتطرُّف ولا تزال تلعب بشكل خفيف في سورية عبر قاعدة التنف العسكرية.

بعد تجربة المفاوضات مع كوريا الشمالية، رغم أنَّها تتطلب الكثير من الوقت والجهد لتلمُّس نتائجها، أدرك ترامب خلالها أهمية القبول الروسي والصيني وترحيبه بهذه المفاوضات ومساعدته عليها، واعتبرها نموذجاً أوَّلياً لمسار دولي يُمكن له أن يُعزز ويحفظ ولو بالحدِّ الأدنى مهابة أميركا وحضورها العالمي، في ظل تنامٍ جديد في العلاقات الدولية برؤية اقتصادية وتحالفات تكرِّس منطق التعاون في إدارة العالم ونزاعاته وفي تثبيت شرعية الأمم المتحدة وعدم جعلها مطية بيد الأقوى، وفي تثبيت دعائم شرعية الدول وحفظها من التدخُّل الخارجي والعَبَث بأمنها. وهذه سياسات اعتمدتها روسيا البوتينية وعوَّدت العالم على السير بها، وفق النظرية الرابعة للسياسة الدولية التي أطلقها ألكسندر دوغين وجعلَها بوتين دستوره الذي يمشي عليه.

قبول أميركي ترامبي مبدئي بالتعاون مع روسيا متسلِّحاً بصقور المحافظين واليمين في الخارجية والأمن القومي بولتون وبومبيو ، للبدء بإجراء مفاوضات للقاء تاريخي طالما تأجَّل وتأخَّر لحسابات داخلية أميركية أو خارجية، بانتظار استخراج كامل ملفات التأزّم من عنق الزجاجة حتى يستوي الجميع على طاولة المفاوضات والتفاهم الجمعي على الحلول. فلقاء ترامب بوتين إذا ما حصل الشهر المقبل سيكون فاتحة لتعاون كبير وإرساء قاعدة دولية تُدير النزاعات، وتبدأ من أكثر ملفين حساسية ونعني بهما سورية وأوكرانيا، حيث البداية من المشهد السوري في الجنوب لناحية الحسم العسكري وبتغطية جوية نارية روسية مكثّفة، وإخلاء الأميركي يده من دعم الفصائل الإرهابية كالنصرة وغيرها وتركهم لمصيرهم البائس، والانكفاء التدريجي كذلك عن اليمن ومعركة الحديدة وملف العراق ولبنان، ربما ستشهد تطورات إيجابية، لكنها بمحرّكات بطيئة لتمرير صفقة القرن التي باتت على الأبواب في حركة مكوكية أميركية وعربية خليجية يعتقدون أنهم غير قادرين على فرضها من دون التعاون والتشارك مع روسيا… إذن فليكن الحسم للدولة السورية ولبسط سيادتها فوق أراضيها، وبعدها كما قال رئيسها الرئيس بشار الأسد بأنَّ الحوار مع واشنطن غير مجدٍ وغير نافع وهو مضيعة للوقت.

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى