ضوء الوطن وتراب الحب

د. عبد المجيد زراقط

«ضوء وتراب» رواية لصالح إبراهيم، صادرة عن دار البَنان في العام 2014.

عنوان الرِّواية دالٌّ يغري بقراءتها لمعرفة مدلوله، فالدَّلالة ليست معميَّة، وإنَّما مجازيَّة، وإذ تتم قراءة الرِّواية يتبيَّن سرّ المدلول، فالضوء هو فلسطين، كما تفيد عبارات منها: فلسطين لبُّ العالم، وضوء العالم، ونبع الضَّوء، والتُّراب هو الحبيبة نجوى، كما تفيد عبارات منها: نجوى أميرة العطر والتراب. والسؤال الذي يطرح هنا هو: من هي نجوى؟ ولمَ هي أميرة العطر والتُّراب؟ ولم نكََّر الضَّوء والتراب؟

قد يكون الجواب: إن التنكير يفيد، هنا، جعل الدَّالِّ عامَّاً، وليس حالةً فردية، وهذا يعني تشكُّل دالٍّ ينطق بتوحُّد الحبِّ والوطن، فدروب العيش يمشيها المحبِّ في ضوءٍ نبعُه الوطن المحتلُّ فلسطين، وهو ليس ضوء مكان محدَّد، وإنما ضوء العالم، وإذ نتبيَّن هذا السرُّ، لا يفارقنا السُّؤال: لم غُيب أميرة العطر، واكتفى بالتراب؟

في سبيل الإجابة عن هذا السَّؤال والأسئلة التي سبقته اللَّذين سبقاه، نبدأ بقراءة الرِّواية.

تتألَّف هذه الرِّواية من ستّة فصول مرقَّمة، لكلِّ فصلٍ عنوان يليه تصدير. العناوين مخصَّصة للشخصيَّتين الرئيسيَّتين: سلام الدُّوري ونجوى دي قسطنطين بالتساوي. يلي كلَّ عنوان تصدير يتألَّف من عبارة أو عبارات مأخوذة من الفصل نفسه الذي يتم تصديره، كأنَّ المؤلِّف يريد أن يركِّز على هذه العبارة، أو العبارات، يُسمَّى هذا النَّوع من تدخُّل المؤلِّف بـ«ما وراء السَّرد»، و«ما وراء السَّرد» تقنيَّة يستخدمها المؤلِّف، ليجعل القارىء يركِّز على ما يختاره له، كأنَّه يريد له أن يقرأ الفصل في ضوء ما يتمّ اختياره من خطاب أو سرد قصصيَّين، وهو بذلك يجعله يدرك أن ما يقرأه هو رواية تقتضي التأمّل والتفكير، وليس الاندماج المفضي إلى التطهير، فالتصدير الأوَّل، على سبيل المثال، يقدِّم شخصيَّة سلام الدوري مكوَّنةً من ثلاثة عناصر: أوَّلها التارك موطنه، وثانيها المهشَّم على مفاصل العمر، وثالثها التَّائه من ألق الأمكنة وعتمتها، والتصدير الأخير، في مثال آخر، يفيد أن شخصية سلام قد نمت وتطوَّرت، فلم يعد تاركاً ولا مهشَّماً ولا تائهاً، إذ إنه قرَّر الزواج، يُسأل: من هي التي ستتزوجها، يا سلام؟ ويجيب: هي امرأة من عطر وتراب، وهذا التطور يعود إلى فاعلية الحبِّ، وإلى ما سوف يتمّ بعد زواج الحبيبين، وهو دراسة التاريخ من جديد، حيث تتبادل أستاذة التاريخ الجامعية «نجوى» دور الأستاذ مع من يكثر وصف نفسه بأنَّه ينتمي إلى من صنع التاريخ ص56 ، فالتاريخ الذي ستتمُّ دراسته من جديد، هو وليد للزواج بين عالمين هما: الباحثة فيه وصانعه، في فضاء الحب.

الحكاية، أو المتن الرِّوائي، في هذه الرِّواية هي: سلام الدّوري شابٌّ من قرية منزوية معزولة هي عيون الحورات، طرد عمَّه أباه، لأنه تزوَّج ابنة من يحتلُّون البلاد، فسافر الأبُ إلى فرنسا، وأخذ العمُّ الابن، وألقاه بين الثوَّار الفدائيِّين، فخاض المعارك معهم، واكتشف فساد قيادة حزبه ص15 ، وهدف قيادة المقاومة الفلسطينيَّة المتمثِّل بالتحريك لا التحرير ص38 ، فترك القتال.

جدَّته حليمة قاومت البيك، وماتت جوعاً، وحبيبته الأولى كريمة قُتلت بشظيَّة. عمل في غير مهنة، ثم سافر، عاشر الكثيرات، ورقصت في دمه النِّساء، ثم عاد وقرَّر الزواج من نجوى دي قسطنطين، وهي أستاذة تاريخ جامعيَّة، أحبَّته، وكرَّرت القول: إنها تريد ألاَّ يكون الرجل الذي تكمل معه حياتها، وعندما عرض عليها الزواج قبلت…

تتخذ هذه الحكاية، عندما تُروى، مبنى روائياً مختلفاً، فتبدأ بتعريف الشخصيات، وتلخيص الحكاية، ثم تحدث قفزة، فيلتقي سلام نجوى في الجامعة، ثم يتم تفصيل موت جدته حليمة ورحيل أبيه، والتقائه هو بالفدائيين وقتاله معهم، وحبّه لكريمة، وأسطورة بناء قرية عين الحورات. ثم يتم تفصيل العلاقة مع نجوى، فالقتال، فالزِّواج من نجوى… مع نجوى…

وهذا يعني أنّ المبنى الرِّوائي النَّص/ الرِّوائي يفارق المتن الروائي/ الحكاية، ينزاح، وهذا هو الانزياح المجاز الرِّوائي فيمضي القصُّ في مسار يتنقَّل بين الأزمنة، فتلخّص الحكاية، ما يثير التشويق إلى معرفة التفاصيل، ثم تأتي التفاصيل متقطِّعة تكثر فيها الثَّغرات الروائية، القفزات وهذه تقنيَّة مشوِّقة، تحرِّك خيال القارىء لملء ما يتم القفز عنه من أحداث، ولعل اعتماد هذه التقنيَّة جعل التكرار صفة من صفات هذا المبني، فكثير من الأحداث يتم تكرارها، وخصوصاً تعريف سلام، وموت حليمة ومقتل كريمة… ويمضي القصُّ، متقطّعاً، يتجاوز بعض الأحداث، ويكرِّر بعضها الآخر، إلى أن يتشكَّل مبنى روائي ناطق بالدلالة، ومفادها سعي سلام، المدجَّج بكل أنواع التعب، بوصفه أنموذجاً، إلى أن يقبض على ذاته التائهة قبل المال، ص . وتمكِّنه من تحقيق ذلك، كما قلنا آنفاً، من طريق الزواج الذي يتم بين عالمين في ضوء الوطن، وفضاء الحب.

يشكلِّ هذا المبنى الرِّوائي عدَّة رواة يتنوَّعون بين المتكلِّم والغائب، إضافة إلى قيام الشخصيات بالقصِّ واستخدام تقنية الحوار الثنائي، ما يعني اتصاف هذا المبنى بتعدُّد الرُّواة، لكن الملاحظ أن اللغة لا تختلف بين راوٍ وآخر، فاللغة هي نفسها، فكأنَّ الرَّاوي الذي يؤدِّي السرد والخطاب غير متعدِّد.

اللغة، في هذه الرِّواية، متميِّزة، جمل قصيرة، في الغالب، بسيطة التركيب، سهلة، وفي كثير من الحالات، تكون مجازيَّة، تنزاح عن التركيب العادي، ونماذج ذلك كثيرة، منها، على سبيل المثال:

ـ في تعريف قرية عين الحورات: «لكنَّها تشبه شهيق السماء على قمَّةٍ من ألق» ص10 .

ـ في تعريف كريمة: «كانت كريمة بساطاً من عشب وندىً، خلاصة رحيق الحقول» ص11 .

إنَّ هذا النَّوع من التَّعريف أقرب إلى الشِّعر منه إلى اللغة الرِّوائية، والمشكلة لا تتمثَّل في المجاز، وإنما في توظيفه، فالتعريف الآتي بذوي المقاتلين يقدِّم معرفةً شعرية/ روائية في آن: «هذا الملقَّب بالخواجا، هنا الآن، يوم كان قائداً للحزب، وقُتِل الرِّجال تحت قيادته، لم يكن لدى ذويهم ثمن القهوة يقدِّمونها للمعزِّين…» ص15 . تتشكل هنا ثنائية القائد/ المقاتل، وهي ثنائية ضدِّية، وتعريف ذوي المقاتل يؤدَّى بلغة مجازية تمثِّل فعلاً دالاًّ على الواقع، فالقارىء يؤُوِّل عبارة «لم يكن لدى ذويهم ثمن القهوة يقدِّمونها للمعزِّين»، فيتمتَّع بجمالية التعبير وبتأويل كنائيته، وفي حالاتٍ يأتي التعريف خطاباً مباشراً يحشد أوصافاً متتالية كأنها الرَّشقات المتتالية بسرعة، كما في خطاب سلام المعرِّف بنفسه: «أنا، يا سادتي، الجائع، المتخم، الهادىء، الصاخب، المدان، البريء، القاتل، المقتول، المتشرِّد، المدجَّن، الحزين حتى اللعنة الجنونية…» ص9 .

يبدو لي أنه من الصَّعب على القارىء أن يتخيَّل شخصيَّة واحدة تتصف بهذه الصِّفات، إضافة إلى صفات أخرى كثيرة سبقتها، في حين أنه يسهل عليه التعرُّف إلى شخصية نجوى، فهي تعرِّف نفسها: «أنا الدكتورة نجوى دو قسطنطين، أنا فرنسية ـ لبنانية، تخرجت في أشهر جامعات فرنسا…» ص17 ، هذا تعريف مباشر، مختلف عما سبق.

ما سبق جميعه يفيد تنوُّع لغة الخطاب، وإن كان المجاز هو الغالب. ولعلي لا أبعد عن الصَّواب عندما أرى أن الأفضل التعريف بالشخصية، وهي تعمل، فيكون الفعل دالاًّ على هويَّة الشخصيَّة وخطابها.

في ضوء ما سبق، يمكن القول: إنَّ بنية هذه الرِّواية تجريبيَّة، فهي ليست خطيَّة، كما في الرِّواية التقليدية، كما أنَّها ليست متكسِّرة الزَّمن أو لولبيَّته، كما في كثير من الروايات الحديثة، وإنما هي بنية خطابٍ قصصي يتكوَّن من فصول، يبدأ كل فصل بتصدير يثير التشوُّق، ثم يتتالى دفقاتٍ تتضمَّن جديلة لغويَّة قوامها مقتطفات من الأحداث والأحكام والوصف، ويتكرَّر هذا في كلِّ فصل، إلى أن يكتمل التشكُّل يؤدَّى هذا الخطاب بلغةٍ يغلب عليها المجاز/الانزياح وحضور المتلقي الذي يخاطَب مباشرةً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى