ملتقى الأدب الوجيز… مفهوم الكثافة في الأدب

لارا ملّاك

الكثافة لغةً، وكما عرّفها ابن منظور في «لسان العرب»، هي الكثرة والالتفاف. فالكثيف هو الكثير المتراكب والملتفّ والعريض من أيّ مادّة.

وينطبق هذا التعريف على الكثافة الشعريّة، وهي سمةٌ وجدناها لدى بعض الشعراء القدامى والمحدثين، ولكنّ شعر الومضة هو النوع الأدبيّ الذي يقوم على الكثافة أوّلاً والإيجاز. فالومضة كثيرةٌ مركّبةٌ أي أنّها مؤلّفةٌ من عناصر عدّة، كما أنّها ملتفّةٌ أي تتراكم العناصر التي تكوّنها دلاليّاً في حيّزٍ قليلٍ أو موجزٍ من حيث الشكل، ما يجعل الجملة قصيرةً، وعريضة. يكون القِصَر في عدد الكلمات، بينما العرض في المعاني التي تتركّب منها.

من هنا، يفتح الأدب الوجيز إشكاليّة الشكل والمضمون، لا ليعود إلى النقاش المعهود القديم الذي أحرقه البحث والزمن، حول أفضليّة أحدهما على الآخر، بل ليشير إلى شكلٍ محدودٍ من حيث النطق، وإلى محتوى لا تحدّه دلالةٌ ومداه مفتوح، لأنّه الوعي بالمنطوق، والوعي البشريّ لا يمكن حصره كمّاً ونوعاً وطبيعةً، ما يفتح المجال أمام الفكرة للتمدّد في ذهن القارئ خصوصاً متى التهبت عاطفته أمام القصيدة الحارّة شعوريّاً، ومتى أرضت القصيدة أيضاً عقله من خلال تحفيز فضوله لإدراك المعنى ولتبيان بَواطن النصّ والمخبوء منه، فتكون القراءة انكشاف الرؤى التي تصير مشتركةً بين المرسِل أي المؤلّف والمرسَل إليه أي القارئ، وإن تفاوتت بفعل الاختلاف بين المقصود والمفهوم، وذلك بحكم التفاوت في تحليل الرموز.

والكثافة شكلٌ متطوّرٌ من أشكال الرمزيّة. فالكثيف رمزٌ تخطّى البعدين في الكلام إلى أبعادٍ أكثر شموليّةً وعدداً، ما قد يزيد الالتباس في النصّ لكنّه يزيد أيضاً العمق. وهذا دليلٌ على أنّ الكثافة في الأدب الوجيز ليست عاملاً أُسقِط إسقاطاً على الأدب، بل هو نتيجةٌ طبيعيّةٌ للتغيير الذي يشهده الخطاب الشعريّ العربيّ مع مرور الزمن وتبدّل سمات العصر.

وإن انتقلنا قليلاً إلى التطبيق في هذا المجال، لتوضيح مفهوم الكثافة في التأليف، فقد نستعين على سبيل المثال بالتعبير الشهير لجبران خليل جبران حين قال: «إنّما الناس سطورٌ كُتبت لكن بماء». من حيث الطول، التعبير مؤلّفٌ من ستّ كلمات، وهذا يعني أنّ الجملة موجزة. أمّا إن دخلنا إلى عرض الجملة، أي إلى المعاني المراد إيصالها وأردنا أن نستنبط المكنون، فنرى أنّ تعبير «سطور» مثلاً يشير إلى طبيعة الناس لكونهم يحملون في صدورهم حكاياتهم، ولأنّهم كالسطور يخطّون الأحداث والأفعال، وقد نفهم من ذلك أيضاً جنوح جبران إلى المعنى الدينيّ، فالمسيح كلمة الله على الأرض، والناس ليسوا بعيدين على ما يبدو من هذه الطبيعة فهم مثله كلماتٌ مخطوطةٌ. أمّا فعل «كُتبت»، ففي تركيبه الصرفيّ هو فعلٌ ماضٍ للمجهول، وهذا يشير إلى أنّ قوّةً مجهولةً خلقت الناس كما تريد فهي المتحكّمة في شكلهم وإرادتهم. أمّا الماء، فالأداة التي وُجد بها الناس، والمقاربة هنا تأتي بين الماء وبين الحبر، فالسطر يُكتب بالحبر أمّا الناس فبالماء، وللماء دلالته العظيمة هنا، لأنّه يعطينا صفات الخالق والمخلوق، أي صفات القوّة التي أوجدت الناس وصفات الناس، وهي صفات القوّة والخصوبة والحياة، أي أنّ كاتب السطور حيٌّ في ذاته ومتحرّكٌ وقويٌّ متحكّم، أمّا الناس فأحياء بقوّةٍ خارجةٍ عنهم وهم ذوو شكلٍ وذوو معنًى وقيمة. ويطول هنا التحليل، لأنّ باب التأويل مفتوحٌ أمام القرّاء. بيد أنّنا نرى أنّ جبران قال ما قد لا يُحصى في كلماتٍ ستّ، هذه هي الكثافة.

أمّا التفلّت من الإيقاع العروضيّ، فهو أمرٌ أرسته قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر من بعدها. ولعلّ التكثيف في المعنى أتى كإحدى نتائج التفلّت هذا، فمن الواجب صقل المعنى وإعطاؤه جماليّةً فنّيّةً وابتكاراً، لأنّ تجريد النصّ من الإيقاع العروضيّ يستوجب الحرص على عدم تفريغه من معناه، فالفكرة صارت الأساس الذي يقوم عليه النصّ وميزانه. إذاً متى كان الكلام مباشراً ومكرّراً سقطت قيمته، ومن هنا تمسّك بعض النقّاد بالموازين القديمة خوفاً على النصّ من السقوط، غير أنّ الشاعر المفكّر قبل الناظم يستطيع بناء نصٍّ حيٍّ قادرٍ على إحداث الدهشة المطلوبة.

إضافةً إلى ذلك، إنّ الكثافة عاملٌ ضروريٌّ في تحديد ملامح الشعر المعاصر وفي تفعيل دوره، وذلك لأسبابٍ كثيرة، منها:

أوّلاً، الكثافة تدعو القارئ إلى سبر غور النصّ وتفكيكه، فإن كان العلم الحديث قال بموت المؤلّف، وبدور المتلقّي في تحديد دلالةٍ جديدةٍ للنصّ، كيف يمكن لذلك أن يتحقّق إن كانت الدلالة بسيطةً جاهزة ولا تحتاج إلى أيّ عناءٍ أو جهدٍ من القارئ؟ البساطة إذاً لا تفتح مجالاً للتأويل، لأنّها تقدّم العمل مباشراً.

ثانياً، البساطة أو اللطافة، لا تسمح بالتجديد، وكلّ عملٍ فنّيٍّ وأدبيٍّ لا يقدّم جديداً لا قيمة له، لأنّ الهدف إنشاء عالمٍ جديدٍ وتغيير الواقع، وهذا ما لا يمكن أن يحقّقه التكرار.

ثالثاً، الكثافة تُخرج مكنونات اللغة، فمن خلال التحليل يمكن ربط ما يُسمّى «المونيم» أي الوحدة اللغويّة التي تحمل معنًى، بالوحدات المجاورة لها في السياق، ليحقّق كلّ «مونيم» شبكة اتّصالٍ لا يمكن أن يُنشئها «مونيم» آخر. وذلك كلّه يسمح بفهم اللغة، بفعل اجتماع علوم الصرف والنحو والتركيب لصنع الدلالة. وهذا يجعل محلّل النصّ يتعمّق في دراسة هذه العلاقات لتنجلي له الصورة.

رابعاً، الكثافة تحرّض على الأسئلة. وذلك لأنّ الجملة المركّبة تحتاج تفكيكاً لفهم مضمونها ومقاصدها، ومع كلّ تفكيكٍ يوقظ المعنى فكرةً جديدة. بهذا تزداد ثقافة القارئ الذي يعتاد التحليل، ومن هنا يرقى الشعرُ بالعقل، وينتقل بالمتلقّي من مرحلة التلقّي السلبيّ إلى مرحلة التفاعل ليكون شريكاً حقيقيّاً في النصّ، ومن كان شريكاً في بناء النصّ كان شريكاً في بناء المجتمع. هكذا تكون للشعر قدرته في تطوير العقول والقدرة على التحليل، وينسحب ذلك على شؤون الحياة جميعها.

أمّا الإشكاليّة في ما ذكرنا، فتكمن في مدى امتلاك القارئ العربيّ الأدوات المناسبة التي تسمح له بتفكيك النصّ وتحليله. وهنا يأتي دور النقد، ليكون الرابط بين المؤلّف والجمهور. وكلّما اطّلع المتلقّي على النقد استفاد منه شيئاً فشيئاً وكوّن ذائقته النقديّة. ولعلّ المشكلة الحقيقيّة تكمن في الإرادة، فهل يريد شعبنا حقّاً الالتصاق مجدّداً بنصّه والتماهي معه؟ هذا هو همّ المثقّف المعاصر المنسلخ مرغماً عن شعبه، ولكنّه ليس همّ القصيدة لأنّها الحرّة الجميلة في ذاتها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى